حسين ماضي يذهب الى البعيد في "غاليري عايدة شرفان"

المقاله تحت باب  معارض تشكيلية
في 
29/05/2008 06:00 AM
GMT



كم هي لذيذة وخلاّبة، قريبة وبعيدة، سهلة وصعبة، نزقة وشهوانية، لكن متمكنة رؤيوياً وتقنياً وأسلوبياً وفنياً، أعمال حسين ماضي الجديدة في "غاليري عايدة شرفان"، ساحة النجمة. هي 17 لوحة و4 منحوتات من الحديد ورسمة واحدة، "تحية الى المرأة" ويستمر عرضها الى 13 حزيران، وتتناول الجسد الانثوي في استداراته المليئة بالحيوية والشهوة معا. اننا امام وقفات تعيدنا الى يوميات المرأة التي تبرز مفاتنها وكأنها تستعد دوما لتلبية مزاجها الذي يستحضر صورا تتماشى مع طموحاتها العاطفية والعقلية ايضا.


في "غاليري عايدة شرفان"، "نضرب" التحية لمن نالت المكانة الاولى في حياة الرجل. الحبيبة والعاشقة والمفجرة الاحاسيس العاقلة والمجنونة. في كل حركة من هذه الاجساد دعوة الى المشاركة والحضور مهما تكن، الحاجة واينما تنوجد المرأة. ففي ملابسها، وفي نزواتها، في تلمسها واثارتها للغرائز، مجموعة حالات ومشاعر تختلط احيانا وتتنافر احيانا اخرى. في عينيها الكثير من الحنان عندما تواجهنا لكنها تتغاوى في الوقت نفسه. عندما تدير ظهرها لنا، تحشد اسرارها في علامة ما حيث تتراكم الدعوات للالتفاتة وللاثارة وللمؤاساة.
يركز حسين ماضي كثيرا على الجزء الاعلى من الجسد المطواع تحت ريشته النظيفة واشاراته التردادية التي لا تخطئ مرة ولا تتراجع حدتها ودقتها. ماضي، الشاطر في الحركات والرسوم الصغيرة الهندسية المنحنى، يقولب صخامة الجسد في حركات الاعضاء غير متوقعة. يستقبل في اللوحة كتلاً من اللحم يفهمها المرء وينجح في استيعاب انفلاشها وكأنها وحدة كروية تذكّر بالانكماش الجسدي لدى الجنين في بطن امه.
في لوحة "حصان على شاطئ البحر"، تستعير المرأة جرأة البهلوان لتسيطر في جلستها المتأرجحة فوق ظهر الحصان وتبين مهارتها في اخضاع ما يحيطها ببراعة فائقة. الحصان هو الحجة لابراز المفاتن. التكحيلات والمشحات البيضاء بين ورود اللون واللون المجاور. كأن ماضي يسهر على التركيبة كلها كي تأتي متوازنة من دون ان تسيء الى التوازنات بين الحصان والفارسة التي تمتطيه. لكن الفارسة لا تمتطي الحصان. انها بالكاد تريح قفاها عليه بينما قدماها تبدوان، اليمنى في حركة التفافية في الفضاء واليسرى متجهة نحو الاسفل لتفادي الوقوع الافتراضي.
في الالوان شعر وجمال. في الارضية، المجردة تماما من كل حركة، يظهر اللون الاصفر (الاوكر) متوقفاً عند الخط الافقي المائل الى البنّي الفاتح. ها هو الحصان الازرق الكحلي بخطوطه الفاصلة والسميكة، خطوط سوداء تترك بذكاء فسحات قليلة لبقع بيضاء تخفف من جرأة. تعود التكحيلات وتتردد لدى الفارسة. انها تعيد استعمال الاسود في القميص المفتوح بشكل مثلث على الصدر بينما التكحيلات رمادية والجسد يتخذ لون الجسم الواقعي وثمة مشحات تشبه هلال القمر لتفسر موقع النهدين. ثم "الكوك دو روش" يزنّر الكم والقبة والجزمة وتكويرة الزنار، لتتنتهي الانشودة اللونية بشريط جلدي بنّي اللون انما يقترب كثيرا من البنّي المحروق. لا يتقيد ماضي بحوافر الحصان بل يرسمها كأنها نهاية شكلية هندسية للخطوط التي تفرز الهيئة العامة بعد ان تكون ابتعدت عن عفرة الحصان المجمعة في كتلة بنية مروسة.
ننتقل الى لوحة اخرى. "عند الشباك". المرأة هنا في حالة ترقب لما يبدو في الافق البعيد. ترتدي افضل الملابس لتظهر بكامل انوثتها. لا يترك ماضي اي اشارة مهمة تفوته. اظفارها مقلّمة بلون احمر وقح، السيجارة مشتعلة بين الاصابع، والفستان الاسود مشقوقا حتى حدود القفا، مفسحاً المجال امام الكولون الازرق للظهور في تموجات خطوطه الزرقاوية، وأمام الزيح الوسطي الذي يعلو حتى الاختفاء تحت التنورة المشقوقة. في المواجهة سفينة وبحر، أما هي فتتكئ على حافة الشباك وقد ربطت شعرها بشريطة حمراء على شاكلة الـ"شينيون". الكندرة الحمراء تذكّر بتموجات الستائر، وثمة بعض من مشهد بيروت يُرى من يمين وشمال. ثم مزهرية فيها زهور دوّار الشمس بأصفرها وبذورها البنية المحروقة. يحيّرنا ماضي، ويدوّخ، من كثرة ما يضع في لوحته تفاصيل وعناصر متممة لموضوعه. يدرس ادق التفاصيل. يعيرها اهتماماً كبيراً. لا يترك للعشوائية والارتجال مكاناً، وإن ضيقاً، ليتسللا من خلاله. كل شيء في الموقع المناسب وكما تقتضي الهندسة الرؤيوية للوحة وللصبغات الواقعية.
كلما انتقل من لوحة الى اخرى، من موضوع الى اخر، من امرأة الى اخرى، يتغير السيناريو ومعه المضامين والفضاء الذي يكوّن الديكور العام لكل جديد ولكل حدث وحادثة.
اما المنحوتات فهي من الحديد المقطّع، وهي للمرأة في وقفتها الكاملة، او في هي نصف امرأة، او عندما تحمل الجرّة.
في معرض ماضي هذه المرة الكثير من الالوان والصخب، ولكل امرأة من نسائه الوانها ووقفتها واثارتها وغنجها ونزوتها ومزاجها، حتى لتعتقد العين أن كل واحدة تحمل هويتها معها وتسمح لنا بأن نتعرف اليها من فوق الى تحت ومن تحت الى فوق. نكتشفها بفرح لان عصبها يلحّ علينا لندخل الى ماهيته ونغوص في حكايته واسرارها.