تمارا السامرّائي... ابنة الزمن الهارب |
المقاله تحت باب معارض تشكيلية «أوزان خفيفة» في «أجيال» ولوحات مستسلمة لبياضها «لعبة الموت» (أكريليك على كانفاس، 102 × 156 سنتم، 2008)تستعيد الفنانة الكويتيّة في معرضها الجديد الشخصيّة نفسها في مختلف الحالات والوضعيّات. صور هاربة من البوم العائلة، من ذاكرة الطفولة. البنت الشقيّة شاخت ولما تكبر، ما زالت تخبئ أسرارها وتمارس طقوسها المقلقة على هذا المسرح الفقير الذي يعكس قلقاً دفيناً
بيار أبي صعب
تسترق النظر إلى الشابة السمراء الجالسة فوق كنبة مرتجلة في الغاليري البيروتيّة، ثم إلى الشخصيّة النحيلة في اللوحة قبالتها. أيهما تشبه الأخرى: الرسامة أم بطلتها الصغيرة؟ والصغر هنا غير مرتبط بالعمر حصراً، بل بالزمن الداخلي، بالمسافة الذاتيّة التي تفصلنا عن الحكاية. نحن في «غاليري أجيال» حيث تعرض تمارا السامرّائي لوحاتها (أكريليك على كانفاس، ٢٠٠٨). أما المشهد، فغائر في الذاكرة الحميمة لامرأة تحمل بين أشيائها وألبوماتها، صوراً وأحاسيس وندوباً وألعاباً... إنّه زاد هذه الفنّانة الكويتيّة، العراقيّة الجذور، اللبنانيّة الأم والإقامة. هناك جرح سرّي ــــ الجرح المؤسس الذي نحمله من طفولة بعيدة ــــ مزروع في قلب اللوحة، كما السهام الصغيرة المدردرة هنا وهناك في معرض تمارا الحالي «أوزان خفيفة» Something White. السهام الصغيرة نفسها، في عجلة الدراجة أو مؤخّرة الحصان، كانت موجودة، بين دمى وألعاب وأحذية وفساتين أخرى، في معرضها السابق «علبة في لعبة» (٢٠٠6). على مقربة من حيث نحن الآن، في المنزل البيروتي القديم الذي بات محترفها مع الفنانة نجاح طاهر («الزاوية»)، بعثرَتْ بين الغرف مجسمات ومنمنمات طالعة من اللوحات، خبّأتها في الخزائن والأدراج، في لعبة مرايا تعطي اللوحة بعدها الثالث (التجهيزي). «قصّة حبّ» (84×198 سنتم، 2008)هناك اكتشفنا تمارا السامرّائي، من خلال ذلك العالم الطفولي المخرّب الذي تسعى إلى ترميمه. الطفولة هنا أبعد ما يكون عن كليشيهاتها. الشخصيات الصغيرة التي التقطتها تمارا بالجرم المشهود في حالات ووضعيّات تتكثّف عندها الحكاية... تنطوي على شيء من الشراسة والقسوة. وتتميّز بنوع من النضج المبكر والتشكيك في الواقع المحيط، والمصادرة على عالم الكبار ورغباتهم وقواعدهم. في معرض «أوزان خفيفة»، نضجت التجربة، وتبلورت النظرة واكتملت الملامح. لنقل إن بطلة تمارا السامرّائي طفلة شاخت في وقت مبكّر، لكنّها ترفض أن تكبر، وتتمسّك بألعاب الطفولة وأكسسواراتها وشقاوتها. إنّها طفولة منزعجة، مشبوهة، تبدّدت أوهامها. صارت البنت تعرف، تفهم الحياة... لكنّها تستأنف اللعبة. العمق ضبابي غائم. الديكور متقشّف خال إلا من عناصر قليلة، كرة أو مسدس مائي، خرطوم مياه أو مصيدة فئران، دراجة أو دواليب ميكانيكيّة، زهرة أو قوس وسهم... الألوان خافتة وداكنة وبدائيّة. اللوحة مستسلمة لفراغها: هذا «البياض» يترك للأجساد الصغيرة المغلفة بملابس قليلة وصنادل بسيطة، أن تأخذ مداها. أن تحتل المساحة الشعوريّة كاملة، بأسرارها العائليّة التي تحرّك فينا حنيناً غامضاً إلى «الزمن الضائع». تلك الطفلة البالغة ـــ لنسمّها كذلك تجاوزاً واختزالاً ــــ تحضر في حالاتها المختلفة، ترسمها الفنانة بلا كلل. البنت واقفة على ظهر حصان وجديلتها في الريح، تسدد سهمها الأصغر من القوس إلى «شقيقتها» التي تعاملها بالمثل، في لعبة هندسيّة مثيرة للفضول. أو تلعب لعبة الميت ممدّدة على طاولة، فيما ترمقنا بعين مفتوحة. أو تركب على دراجة ناريّة قديمة محدّقة في المقلب الآخر ـــ «هذه اللوحة استوحيتها من صورة قديمة لأمّي» ــــ وهناك البنت السمراء (السمار رمادي على سطح القماشة) ذات الجبين العريض، والعينين الأكبر مما يحتمل الوجه، والشفتين الدقيقتين اللتين أبرزَهما أحمر الشفاه... إبهام يدها اليمنى في فمها كأنّها تعد مخططاً جهنميّاً، واليسرى قرب مصيدة فئران على الطاولة. فيما وقفت، على خلفيّة غائمة، بفستانها الأصفر الذي انزلقت حمالته على الكتف اليسرى. هناك أيضاً جياد وثور راقد وقرد طائر، هي الأثر الوحيد الملموس للذكورة. الذكورة خارج الكادر غالباً. الدراجة النارية السوداء أيضاً تشبه حشرة عملاقة. تروي لنا تمارا كيف فكّرت لوهلة في أن تضع على بطاقة الدعوة إلى المعرض، صورة لوالدها بالملابس الخفيفة يعرض عضلاته ضاحكاً للكاميرا. «ما زلت أبحث عن كيفية رسم جسد الرجل» تقول. تلتمع عيناها ثم تعود إلى سابق صمتها. تواصل هنا رسم التقاطع بين زمن اللوحة وزمن المشاهدة. قصص مكرّرة، حاضرة بثقلها، بقدرتها على التأثير. ومشرّعة على التأويل. العدائيّة الظاهرة من آليات الدفاع عن رقّة مهددة، وعن رهافة وطيبة لا يتسع لهما العالم. هذه البنت ترمق الواقف قبالتها بنظرة مقلقة، تستبطن انفعالات مكتومة. يشعر الناظر بأنّها تنتهره، تتخذ منه شاهداً، تستدرّ عطفه وتواطؤه، تغمزه، تتشيطن عليه، تقدّم نفسها بثقة زائدة، تحذّره... نراها فارسة تغمر حصانها وتدافع عنه، أو عاشقة تعانق الثور بشكل معكوس، مقوّسة بفستانها الأحمر وضفيرتها الهادلة على الأرض. يحار المرء في التأويل الإيروسي الذي يحقّ له أن يعطيه لهذا العمل («قصّة حبّ»، ٨٤ x ١٠٨ سنتم). الطفولة في أعمال تمارا السامرّائي مجرّد ذريعة أو قناع، وقد تكون تمسّكاً بالزمن الهارب على غفلة منّا، إذ نشيخ مكرهين، ولمّا نزل نحوم حول تلك المرحلة التي صنعتنا، وأورثتنا مركبات النقص، وأوهام السعادة، والمشاعر المعقّدة... وذلك الشعور بالخسارة والخوف وعدم الاكتمال. إنّها في كل الأحوال طفولة غير بريئة. حتى 27 الحالي ـ غاليري «أجيال» (الحمرا) ـ للاستعلام: 01/345213
|