شيء عن رسوم ثائر هلال: فتنة اللغة التي تفتك بالأشكال من أجل الموسيقي |
المقاله تحت باب مقالات أمام رسوم ثائر هلال سيكون علينا دائما أن نخترع معانيَ كثيرة لمفردات نقدية يبدو تداولها ميسرا، ذلك لان تلك
الرسوم قد تحرجنا بتناقض ما تنطوي عليه معاني تلك المفردات إن استعملناها وفق ممكنها الثقافي السائد. ثنائيات متناقضة كثيرة لا تزال غضة، يصنع منها الفنان عجينة أفكاره التقنية التي تسبق فعل الرسم وترافقه ولا تنتهي بانتهائه. ارتجال لا يخفي بصيرته الموسيقية الحالمة يحضر ممتزجا بإتقان ينبئ عن صرامة قاعدة بناء ذهني لا تسمح بأي خطأ في التحليل البصري. وفي هذه النقطة يبدو لي أن الفنان السوري قد قرر أن يتخيل وحداته الجمالية بعيون الفرنسي هنري ميشو والهولندي بيت موندريان معا، من غير أن تفصح رسومه عن تأثرها الصريح برسوم أي واحد منهما.
فهلال يعني بالتجربة بقدر ما يعني بنتائج تلك التجربة علي مستوي ما تحدثه من قلق وشغف جماليين. من المؤكد في حالة هذا الرسام أن استدعاء الزخرفة العربية مصدرا تستعين به العين التي تري علي تفسير ما تراه هو نوع من سوء الفهم وإن كان الرسام هو ابن البيئة الثقافية التي أنتجت عبقريتها ذلك الفن الساحر والأخاذ بقيمه الجمالية النفيسة. ثائر هلال لا يزخرف مقيدا بقانون مسبق بل يرسم بحرية يحسده عليها أشد التجريديين انحيازا إلي ابتكار الدروب التي تقود إلي متاهة اللامرئي. لن يكون في إمكاننا أن نتابع نمو اللوحة الجاهزة (بسبب العرض) أمامنا غير أن تلك اللوحة لا تكف عن تخيل شكلها النهائي،
وهو شكل ليس في الإمكان القبض عليه أو التماهي معه. ذلك لأنه بعد أن صار يستجيب لإيقاع حركته الداخلية لم يعد في إمكانه سوي أن يتمرد علي رغبة الرسام في تطويعه، فكيف بنا ونحن نراه في عزلته. يتكرر شيء ما في تلك الرسوم، شيء ينبغي أن لا نبالغ في حجم ضرورته. ذلك لأن الإيقاع الموسيقي الذي هو العنصر الأساسي الذي يستند إليه مفهوم الرسم لدي هلال لا يصدر عن ذلك التكرار بل عن كسر الأوهام التي تحيط به. بدلا من حجرة ضيقة هناك مفتوح مفتوح. هذا ما يقترحه الرسام حين يفجر الوحدة الجمالية من داخلها. لدي هذا الرسام ما يفعله في الوقت الضيق الذي يفصل بين إفراغ الخلية من هوائها وملئها بهواء جديد. وهنا يتخذ مفهوم الرسم معني إشكاليا، ذلك لأنه يستند إلي مفهوم الحذف ولا يقبل بالإضافة حلا مؤقتا. يصر الرسام علي أن يجعل الموسيقي تتعثر لتكشف عن عريها الذي هو رغبة في الاستغاثة. وهكذا فإن من ينظر إلي تلك الرسوم لا يشعر بأي يقين تام، بقدر ما تنتهك الشكوك قدرته علي الشعور بوجوده، كائنا علي قيد النظر. تبدو المفردات التي تتشابه (كما ظنها من قبل) مستعدة للانقضاض علي سلامه المهدد باختلافها، الذي هو نوع من الحروب الصغيرة التي يتوحد القاتل والقتيل من خلالها في جثة واحدة. كل مفردة من مفردات هذا الرسام تحضر متبوعة بتجربتها، التي هي قناع متأخر يضعه الرسام علي وجهه ليخفي رغبته في التلصص الهادئ. لست أنا بل ذلك الذي يأمرني بالرسم كما أني لست متأكدا من منا هو الذي يرسم سيقولها الرسام مرارا ليعتذر. فكرة أن يكون موجودا في رسومه لا تعني لهلال شيئا ذا قيمة. لقد ورث حيادا يجعله في منأي عن أي سؤال عارض. لا يمكنه أن يكون موجودا في مكانين. الرسام السوري المولود في دمشق عام 1967 لم يكن يحلم يوما ما أن يقف في مواجهة العدم. قدره أن يكون موجودا في لحظة الرسم. وهو قدر سيضعه فيما بعد في مواجهة المعادلة الكبري: أن تكون إنسانا. ذلك القدر فرش أمامه اللغة ليفكر ويتخيل وينشئ بما يفيض عن حاجته حجابا. هلال يرسم باللغة. وهي لغة تتخطي الشفتين إلي اليدين، بل الي الحواس كلها. مصادر ايحائه تكشف عن غبطته الحسية. هناك في كل لحظة بصر بذخ لافت في التماهي مع الطبيعة، وهي طبيعة متخيلة باستمرار. كل لوحة هي حكاية، لكنها ليست كالحكايات التي تذهب عارية إلي تمامها، هي حكاية يقع الكامن منها في لغز ما لا نراه منها.
نخرج منها معبئين بأوهامها من غير أن نتخذ من تلك الأوهام سببا للتعلق بها. هي لنا ولغيرنا في الوقت نفسه. لا يهمنا كثيرا اننا لم نعثر فيها علي ما نبحث عنه، يكفينا أنها تقول شيئا ما، ولكن هل تقول رسوم ثائر هلال شيئا ما حقا؟ نسيج من البراءة غير أنه لا يخدع. عمارة من الطهر غير أنها لا تتستر علي الذنوب. هندسي بالمعني الذي ذهب إليه موندريان غير أنه في ذات الوقت عبثي بالمعني الذي ارتجله ميشو. هذا هو ثائر هلال. وهي خصلة نادرة في سيرة الحداثة العربية. هو ذا رسام عربي يقبض علي شجرة موندريان لينفخ فيها هواء مختلفا، هو هواء ميشو. وهو الهواء الذي تنبعث منه موسيقي روح لا تزال الأسئلة تغذيها بالألغاز. تحضر فتنة الصحراء بهدوء كما تحضر فتنة البحر بصخب، غير أن فتنة اللغة تفتك بكل ما يسبقها أو ما يتبعها. يحتفي هلال باللغة مثلما كان يفعل أجداده السومريون بالضبط من خلال الرقم الطينية والاختام الأسطوانية. حياته كلها تقيم في رمز مكتوب وملقي في مكان غير مستقر هو الروح. لذلك فإن رسوم ثائر هلال لا تتشبه بالايقونات، بل تمتحن وجودها بأسئلتها التي هي نوع من الحيرة. هناك دائما جمال فائض لا يمكن التعبير عنه إلا من خلال التماهي مع سعة كون، هو في طريقه إلي التشكل. ولذلك يشعر المرء وهو يقف أمام لوحة من ثائر هلال أن الرسم لا يصف الذكريات بل ينقيها ليقفز من خلالها إلي فضاء هو حاضنة اختلافها. ثائر هلال هو رسام الشبيه المختلف.
|