معرض أول لفنان لبناني نشأ في أفريقيا ... حسين علي حسين يرسم كوابيس الغرفة البيضاء

المقاله تحت باب  معارض تشكيلية
في 
10/07/2008 06:00 AM
GMT



أشكالٌ تغوص في قعر الذاكرة، وفي خضم أمواجها وأرخبيلاتها، ثمة أشياء تتجمع بلا روابط تعوم على سطحها كي تتفرق مثل خلايا منقسمة على ذاتها، والباب هو السر الذي ينغلق على صراخ مكتوم هو صراخ السرير المعذب في الغرفة المريضة. تلك هي عوالم لوحات الفرنكوفوني الشاب حسين علي حسين الذي يطل للمرة الأولى في بيروت في معرض يقيمه في غاليري زمان، في معرض «أحوال النفس»، المتضمن 24 لوحة (زيتيات وميكسد ميديا وأكريليك) تجسد مشاعر مريض غارق في ظنونه حتى الموت في مناخات ورؤى كافكوية.
يروي حسين حكاية جسد مصلوب على سريره في رحلة المرض. وأقصى ما يمكن أن يفعله هو التنقل داخل غرفة صغيرة من غرف المستشفى، يصورها غارقة في رتابة الأبيض الثلجي للسرير الشبيه بالكفن. لذا فهو يصف الغرفة كعالم نهائي مغلق لكنه يلحّ على الباب يطرقه مراراً في عزلته علّه يستطيع ان يخرج منه الى العالم. ومن ثغرة مفتاح الباب يدخل ضوء أزرق سرعان ما يغشى كل محتويات الحجرة الرتيبة التي تتحول يوماً بعد يوم مستوعباً للماضي، ومكاناً للتحوّل والتخيّل والعذاب.
يفتح حسين أبواب فنه لما تحت الوعي، فهو لا يصور المَشاهد التي تراها عيناه، بل ما يتراءى له انه واقع هو من نسج الأحاسيس القلقة التي تجعل الأشياء تنزلق من بين أصابعه، كانزلاق الحياة نفسها التي تحولت وهماً. لذا تسيطر على مشاهده المظاهر الغرائبية والفانتازيا. فكل ما هو خارج الغرفة بات من الماضي، غير أن فضاءها الداخلي سرعان ما يتحول مكاناً مبهماً افتراضياً لصور وأصوات ونداءات تأتي على غفلة، ومثلما تأتي تتبخر، كما تغدو أيضاً سماءً مكفهرة ومسرى لعبور أحداث ومآثر ووجوه ومدن أسطورية وطفولة هاربة. ليس أجدى من معرفة نبض الوقت سوى استدعاء الذكريات لقتل الوقت بأدواته، من دون أن يعثر المريض على شيء يهدئ نفسيته من رهاب المرض وروعه. بل يُخيل إليه أن العيون مسلطة عليه من الأعلى لتفتك به ثم نكتشف ان هذه العيون الوسيعة هي مصابيح آلة التصوير الإشعاعي، في عيادة الطبيب فوق سرير المعالجة. فالحياة السريرية هي حياة متعذرة ومهددة، بل هي وجه آخر للموت البطيء، والانتظار يخدش أكثر فأكثر مشاعر الريبة والحذر والترقب.
حسين من أصل لبناني (مدينة صور) ولد وعاش في أفريقيا ثم درس الصيدلة في روسيا لينصرف بعدها الى الفن ويغوص في استنباط الأعماق الإنسانية بأبعادها العبثية والوجودية والعاطفية الباهرة. فالإحساس بالعدمية يقوي لديه الرغبة في التأكيد على مظاهر الحياة المنبعثة من إشراقات غيبية مصدرها براءة الطفولة وحنان المرأة والسفر في تاريخ الأزمنة.
تظهر في إحدى لوحاته بقع الدم المتجلطة وهي تغزو الوجه، فلا يبين منه غير العينين والأسنان. وفي الغيبوبة تنقلب الأشياء رأساً على عقب، فتتدلى الأقدام من أعلى اللوحة، وتهبط على مساحة تشغلها تماثيل رخامية ونساء متحجرات، وعبارات مكتوبة بالفرنسية بين طيات جدران مدينة زرقاء مهجورة. من لوحة إلى أخرى نتبين أن المرض عضالٌ وأن الغدد اللمفوية هي المصابة، لذا يتحول الجسد موضوعاً محورياً يقوم الفنان بدراسته مورفولوجياً كخلايا ولحم وأعصاب، لكنه يذهب ابعد من ذلك فيستحضره بجماله الخالد في تماثيل الإغريق، جمال القوة والعضل والحركة.
وفي أعمال حسين يتحول الكائن ظلاً مبقعاً بالضوء يعوم في غلاف جوي هلامي لزج، كما تعوم فيه أيضاً أشباح الماضي وبيوت الغرباء وزوار العتمة وألعاب الطفولة. فهو يقاوم المرض بالاستذكارات،
ويحلم بالخروج الى الحياة الوادعة. في انتظار ذلك يبدو الجسد مسجى مقيد اليدين بلا حراك تحت تأثير دوامة صفراء، وهو يستدعي في غيبوبته أقماراً وأشجاراً ونساء من أدغال أفريقيا المتوحشة، وشعوباً من سلالات الأرض. ولكن لا شيء بوسعه ان ينقذه سوى يد حبيبة يحلم بها جالسة في سماء عالية مثل قديسة.
يبدو حسين متمكناً من التشخيص والتشريح الجمالي للجسم الإنساني، في بناء عوالمه الخيالية بغيوميتها الزرقاء وزخارف أعمدتها وتيجانها وساحاتها المفتوحة على الفضاء. فقد استطاع أن يطوّر تقنيته اللونية باستخدام بعض المحاليل الكيماوية التي تتفاعل مع المساحيق اللونية، متحكماً بدرجات الشفافية وضبابيتها وعلاقاتها بطبقات الألوان التي يهيمن عليها الأزرق والأخضر والأحمر والأصفر الترابي. كما أن ثقافته التي تمتد في جذورها الفرنكوفونية إلى الفلسفة والأدب، أعطت مضامين أعماله وأعماقها النفسية والشعرية الخيالية مؤداها. فهو يمتلك وسائله في الإيهام والغموض والإيحاء، لذا يعمد إلى التوليف البصري للعناصر، من دون التقيد بالمنطق، ومن هذه الزاوية التحررية تستمد الكائنات والأحلام والأمكنة مبررات جديدة في علاقاتها الجمالية.