بيكاسو «العربي» في ربوع أبو ظبي

المقاله تحت باب  معارض تشكيلية
في 
01/07/2008 06:00 AM
GMT



«آنسات أفينيون» 1907«بيكاسو أبو ظبي» معرض نوعي ومهم تشهده للمرة الأولى المنطقة العربية. إلا أنّه لا يقام بمبادرة من مؤسّسة ثقافية عربيّة، بل بجهود شركات تجارية مثل «شركة التطوير والاستثمار السياحي» التابعة لحكومة أبو ظبي بالتعاون مع إدارة «متحف بيكاسو الوطني» في باريس. إنّها خطوة ثقافية مهمة، وخصوصاً إذا عرفنا أنّ دليلاً مصوّراً باللغة العربية يضمّ أعمال الفنان ومراحل تطوّره الفنية يُقدَّم في المعرض الذي يضمّ 186 عملاً ويقام في قصر الإمارات حتى 4 أيلول (سبتمبر) المقبل، علماً بأنّ المعرض المتجوّل سيطوف تسع مدن عالمية، كانت أولاها مدريد ثم أبو ظبي.
لكنّ اللافت أنّ الإعلان الصحافي عن المعرض جاء بعبارة تحتاج إلى التأمّل قليلاً، تلك العبارة التي تلقّفتها وسائل الإعلام العربية المقروءة والمسموعة لتضمّنها نشراتها الإخبارية عن المعرض، إذ تقول: «تعكس هذه الأعمال (المقصود هنا التخطيطات) تأثّر بيكاسو بالثقافة العربية خلال نشأته وشبابه في مدن ملقا ولاكوتثينا وبرشلونة». بالتأكيد إنّ المدن المذكورة ليست عربية، ولو أنّ المقصود هو موروث الحضارة الإسلامية في الأندلس. فالزمن والسياسة كانا كفيلان بمحو أغلب ما خلّفته تلك الحقبة من موروثات ثقافيّة وفنيّة.
لكن هل تأثر بيكاسو حقّاً بالثقافة العربية؟ يندر العثور على فنّان في هذا العالم غير متأثّر بالثقافة العربية أو عارف بها، على أقل تقدير. لكنّنا هنا، نتحدث عن بيكاسو، الفنان التشكيلي، والمثقف، والماركسي المتمرّد الذي استلهم في أعماله روحَ الموروثات الفنية للكثير من شعوب العالم. بيكاسو الجدلي كان فناناً مبتكراً لا ينتمي بطبيعته إلى جهة أو مدرسة، بل هو رائد أهم المدارس الفنية، ومنها التكعيبية بمختلف مراحلها... هو الذي وصفه الشاعر الإسباني رفايل ألبرتي بـ«الشعاع الذي لا ينكسر».
إن المنحوتات والرقم الطينية الآتية من بلاد الرافدين إلى باريس بداية القرن الماضي، وتلك الأعمال اليدوية والنحتية والأقنعة التي مصدرها وسط القارة السمراء وجنوبها، كان لها أثرها السحري على روح الشاب الإسباني الذي قرر الإقامة والعيش في باريس منذ عام 1904 حتى وفاته عام 1973. والمطّلع على كتاب «واقعية بلا ضفاف» لروجيه غارودي، يعرف بالتفصيل ذلك الأثر الذي دفع بيكاسو الفنان ــــ تحت تأثير نزعة التمرّد وجذوة الإبداع ــــ إلى صنع أعمال لا تنقصها الحداثة والدهشة. تلك الأعمال لم تكن تشبه ما شاهده في متاحف باريس بكل تأكيد، إلا أنّ أثرها على روحه وتفكيره كان واضحاً... في ذلك الوقت، وتحديداً في أواسط العقد الأول من القرن العشرين، كانت لبيكاسو بعض التخطيطات التي لا تتعدى كونها اسكتشات سريعة نفّذها خلال رحلته الأولى إلى الجزائر. تلك التخطيطات وما تلاها بعد نصف قرن، من لوحات صوَّرت النساء الجزائريات، ما هي إلا تجسيد لرؤية أو استلهام خاص بالفنان... أوحت له الأجواء وطقوس المكان وألوانه، ببلورة أفكار تلك الأعمال. والمعروف أنّ بيكاسو نفّذ أكثر من 200 عمل بين التخطيط والاسكتش واللوحة، لشخصية «كارمن» التي استلهم بفضلها العديد من الفنانين أعمالهم. حتى إنّ معرضاً خاصاً بأعماله عن تلك الشخصية أقيم العام الفائت في باريس تحت عنوان «كارمن بيكاسو». فهل يحق لنا القول إنّ بيكاسو تأثّر بالثقافة الغجرية أو الفن الغجري لأن «كارمن» تنتمي إلى الغجر؟ وهو ما ينطبق أيضاً على عدد من الأعمال التي نفّذها بيكاسو في رحلته الأخيرة إلى الجزائر كلوحة «نساء جزائريات» (1955)، تلك الرحلة التي ذكرتها المؤرّخة أنيسة بوعياد في كتابها «الفن والجزائر الثائرة»، إذ ذكرت أنّ بيكاسو أقام في الجزائر من 1954 حتى 1955.
وبالعودة إلى الحدث المهم الذي يقام في أبو ظبي هذه الأيام، نجد أنّ هناك أهمية أخرى جاء بها المعرض، هي التخطيطات ــــ وليس المخطوطات كما جاء في بعض وسائل الإعلام عن المعرض ــــ التي وصلت إلى 40 تخطيطاً.
منذ أن رحل بيكاسو عن عالمنا عام 1973، والمعارض المقامة لأعماله لم تتوقف. إلا أن إقامة معرض لأعماله في المنطقة العربية تعدّ إنجازاً مهماً. فبيكاسو الذي عاش 91 عاماً مر بتجارب فنية عديدة، وصارت حياته الفنية تكنّى بأسماء تحدد مراحلها الزمنية: فبعد 1904، عندما قرر العيش والإقامة في باريس، كان قد أنهى المرحلة الزرقاء ليفتتح مرحلة جديدة سمّيت المرحلة الوردية أو الزهرية، نفّذ خلالها العديد من الأعمال، تقف لوحة «صبي مع غليون» كواحدة من أهم ما يميّز هذه المرحلة. اللوحة بيعت عام 2004 بمبلغ 100 مليون دولار. ومما لا شك فيه أنّ لكل مرحلة من مراحل هذا الفنان عملاً فنياً يعدّ ذروة تلك المرحلة. فكما أنّ لوحة «آنسات أفينيون» (1907)، تعدّ بداية التكعيبية وأهم ما يميّز نزعة التمرّد عند بيكاسو، تعدّ لوحة ــــ أو لوحتا ــــ «الموسيقيون الثلاثة» (1921) ذروة المرحلة التكعيبية من وجهة نظر النقاد.
أما بالنسبة إلى «الغرنيكا» (1937) ، ومن ثم العمل الاحتفالي في شكله، المأساوي في مضمونه، «صيد ليليّ في أنتيب» (1939)، فيعدان وثيقةً فنيةً مهمة لنهاية إحدى المراحل التكعيبية، من حيث التكنيك الفني، والتي عرف بها بيكاسو كأحد أهم روادها. إذ إنّ العملين نفّذا بطريقة جديدة ومبتكرة يمكن أن نراها تكعيبية جديدة تهتم بالمضمون وتبتعد عن الشكل على غير عادتها. فبيكاسو الفنان المعروف بتجدد أساليبه واختلاف طرق التنفيذ في أعماله، كان كثيراً ما يدخل مجالاً جديداً لا يخرج منه إلا وقد أوسعه دراسة وتجريباً. من هنا نجده أكثر الفنانين إنتاجاً وتنوّعاً، والمتاحف العالمية عامرة بأعماله المتنوّعة بين لوحات زيتية ومائية، بورتريهات وتخطيطات، نحت وتصميم. فما من مجال ولون ومادة إلا كان لأفكار بيكاسو وأعماله نصيب مهمّ فيها.