ندى عقل في معرض باريسي: الطبيعة منعكسة في مرآة الذات

المقاله تحت باب  معارض تشكيلية
في 
01/07/2008 06:00 AM
GMT



لم تنته الرسّامة اللبنانية المقيمة في باريس، ندى عقل، من مفاجأة متتبّعي مسارها الفني الفريد منذ انطلاق مسلسل معارضها في بداية الثمانينات، كما تشهد على ذلك المراحل التي عبرتها حتى اليوم بفنها والتي تعكس تجديداً ثابتاً ومثيراً لأسلوبها الرسمي ولمواضيعها، مع الحفاظ على عدد من الثوابت التي تميّز عملها الفني وتمنحه هويّةً محدّدة وخاصة، كالضوء الساطع في لوحاتها الذي تغنى به ناقدوها، أو نزعتها التصويرية الشديدة التي يتحوّل فيها الواقع الظاهر إلى حلم أو خرافة، أو هاجس تثبيتها لماض مرّ ولن يعود أبداً.

وفعلاً، انطلقت رحلة ندى الفنية بمرحلة يطغى عليها حنين إلى صورية أفلام فترة الثلاثينات، فحقّقت بين عامي 1984 و1989 لوحات بأسلوب واقعي شديد الواقعية (hyperréaliste) تظهر فيه نجوم سينمائية وفنية ماضية داخل أماكن تنتمي إلى عالم الفنانة الشخصي، الأمر الذي يضفي على هذه الأماكن هالة أسطورية. وخلف أقنعة هذه النجوم تتجلى «أنا» الفنانة في هويتها واختلافاتها، وفي مختلف وجوهها وطموحاتها. بعد ذلك، عرفت ندى مرحلةً جديدة في فنّها امتدّت حتى عام 1993 وخصّت بها عالم قريتها اللبنانية التي بدت في لوحاتها خارج تقلّبات الزمن والتاريخ وعلى هامش الأزمات والحروب التي شهدها لبنان آنذاك. وفي هذه الأعمال، تتحوّل المشاهد اليومية لطفولتها إلى أحلام يقظة أو إلى أساطير شخصية ومشاهد رمزية هدفها سدّ فجوات الذاكرة بواسطة المخيّلة، وتعديل الزمن وصور الماضي وفقاً لحاجاتها العاطفية.
أما المرحلة الثالثة من مسارها، التي يمكننا الآن مشاهدة ثمارها في غاليري فرنسيس بارليي (باريس)، فتعالج ندى فيها موضوع الطبيعة الجبلية، كمكان لا حياة ظاهرة فيه، مسكون فقط بعظمته وشسوعه.
وتتميز لوحات هذه المرحلة بمناظر غسقية عارية تتخللها من حين إلى آخر أعشاب بريّة وجذوع أشجار مسننة وسماء غاضبة، وتظهر على سطحها الشقوق والحفر ورواسب بركانية من صخور وطين ورمل وزبد. وتشدّنا الجبال العالية فيها بطبيعتها الجامدة والارتكاسية في الوقت ذاته، وبأشكالها التي تبدو على وشك الحركة. إنها مفاهيم جبال تظهر بطابع مطلق وبأبعاد أسطورية وكأنها أعمدة القبة السماوية أو مكان التقاء الأرض والسماء، وبالتالي رمز للسمو الروحي وسبيل لمعانقة الماورائي، وتطغى عليها تناغمات أصلية سابقة، ويحيط بها أحياناً البحر أو عنصر الماء كمادّة أولى مطهِّرة. أما فضاءات هذه اللوحات المشبّعة بالجبال فتتميّز بسيولتها وتمدّدها على شكل أمواج شفافة. ولا يكمن جمال هذه الفضاءات في طريقة تشكيلها وتلوينها فحسب، بل في اندفاع مادّتها الجامدة والملتبسة نحو الحياة.
وما يقود ندى نحو اللاواقعي والحلمي في أعمالها لا علاقة له بمقوّمات الحلم المعتادة بل بتأمّلها العميق في الواقع نفسه. تأمّل يفضي بها إلى حبكة اللامرئي ويمنحها نظرةً شعرية تسمو بالحياة العادية وأشيائها. بهذه الطريقة يتحوّل المنظر العادي إلى مشهد خارق وتصبح الغيوم امتداداً للحجارة والصخور وتتداخل السماء بتعرّجات الأرض وتضاريسها. وفي هذا السياق، تبدو الفنانة رومنطيقية وحديثة في الوقت ذاته. رومنطيقية لأنها تمنح المعتاد معنى سامياً وطابعاً غامضاً وتمدّ العابر بظاهر سرمدي. وحديثة لأن نماذجها وأشكالها وموادها تشكّل وحدها اللوحة بفضل ريشة سحرية وماهرة تكسو بياض القماش بطبقات لونية متتالية وبرّاقة. ومن هذا المنطلق، لا تكمن أهمية هذه الفنانة في احترامها للمشهد المصوّر ودقة نقله، بل في طريقة تشكيله بأسلوب يفتح باباً يقودنا إلى داخله.
في النهاية، لا بد من الإشارة إلى التضمينات الجنسية التي تعجّ بها لوحاتها المعروضة في شكل عفوي أو إرادي. فالشلالات والمغارات والأودية والكهوف هي رموز أنثوية، بينما الأشجار والجبال المنتصبة هي رموز جنسية ذكورية. وفي كل المناظر المرسومة، ثمة تداخل واضح بين الفراغ والملء.