المقاله تحت باب معارض تشكيلية في
01/07/2008 06:00 AM GMT
احتفل النحات السوري مصطفى علي، مع حشد من وجوه الثقافة والفن في سوريا، بوداع منحوتته التي ستأخذ مكانها على سطح معهد العالم العربي في باريس في احتفال آخر فرنسي في الثاني عشر من تموز القادم، لمناسبة الذكرى العشرين على تأسيس معهد العالم العربي في باريس. عملُ علي كان اختير واحداً من بين سبعة وثلاثين عملاً عربياً تقدمت إلى مسابقة من مرحلتين ولجنتين، مصغرة معظمها من الفرنسيين، وأخرى تضم قناصلة عرباً. ولقد صادف فوز مشروع الفنان السوري في المسابقة الفرنسية أن يحتل اسمه الرقم 17 ضمن قائمة أقوى مئة شخصية عربية للعام 2008 أصدرتها مجلة أريبيان بزنس الإنجليزية. لا شك في أن عدداً من المتابعين يحلو لهم توظيف هذا الحدث الثقافي سياسياً، خصوصاً أن «تطبيع» العلاقات الفرنسية السورية بدأ من الثقافة. وفي هذا السياق يستشهد علي بما كتبه المدير الفرنسي لمعهد العالم العربي في رسالة للسفارة الفرنسية في دمشق: «مبروك لسوريا أن يفوز فنان دمشقي له سمعة عالمية، فهذا بالنسبة للفرنسيين إنجاز على الصعيد السوري». ويؤكد علي: «ثمة من قال إنه إنجاز كبير أن تحتل سطحاً في باريس في هذه الأيام». النحات السوري شرح لـ«السفير» رحلة المجسم الذي أنجزه من الفكرة إلى التجسيد: «عندما قرأت شروط المسابقة كان لدي إحساس قوي بأنها ستكون من نصيبي. بقي الموضوع يحوم في بالي خمسة عشر يوماً. أعرف من قبلُ واجهة معهد العالم العربي، وهم قد زوّدونا أيضاً بصور له، وكذلك بالشروط اللازمة (أن ينسجم العمل مع واجهة المبنى، وأن يكون مستوحى من تاريخنا). ذهبت ذات صباح إلى مقهى، قعدت هناك، أخذت منديلاً خشناً، وطويته 36 مربعاً، ثم فردتُه وأنزلتُ عليه مجموعة من الرسوم والزخارف المستوحاة من تاريخنا، والتي لها شخصية مصطفى علي. أخذت المنديل وعالجته على الكمبيوتر، وحوّلته إلى مادة قوية جداً تنسجم مع طقس باريس، وهي الحديد (الفونت)، وعالجتها بحيث تكون مادة نافرة تشبه ما ستكون عليه في الواقع. أرسلتها على قرص مدمج، ونسيت الأمر. كان لديّ إحساس أنني تأخرت في إرسال المشروع، وفهمت فيما بعد، أن اللجنة ركنتْها، لأنها وصلت متأخرة يومين. ولما لم يعجبهم شيء، خطر لهم أن يلتفتوا إليها، وعلى الفور نالت الإعجاب، واعتبروها واحدة من خمسة مشاريع مقبولة من أصل سبعة وثلاثين قدّمت للمسابقة. النحاتون الأربعة الذين وصلت معه إلى القائمة القصيرة من المرشحين موجودون كلهم في باريس. فيما أنا أتلكأ في الذهاب إلى باريس للمناقشة حين طلب مني ذلك. حين ذهبت قابلتني اللجنة لربع ساعة، واللجنة كانت من الفرنسيين بينهم عربي واحد هو فاروق مردم بك، هذه اللجنة المصغرة، ولكن اللجنة صاحبة القرار الأخير كانت أوسع وتتضمن قناصلة عرباً. بعد حوالى أسبوع من المقابلة هتفوا لي بأن اللجنة كلها اختارت مشروعي. في النهاية، وأنا أجمع قطع العمل جنباً إلى جنب في ذلك الحفل الوداعي للمجسم قبل ذهابه إلى باريس، وجدت نفسي، أنا من أنتج العمل، مذهولاً وأنا أرى الشكل النهائي، مذهولاً حين أتذكر تلك الفكرة الصغيرة، وكيف تحوّلت إلى هذا الوجود المادي الكبير، تحس بروعة أن تتحقق الأفكار». أبعد ذكرى علي وصف عمله بالقول: «إنه مجموعة رموز وإشارات تحمل وراءها معنى، مثل المربع والمثلث والدائرة والخط المنحني والخط المتموج والإشارات السالبة والموجبة، وكلها تدل على علاقة الإنسان بمحيطه وعلاقة الأرض بالسماء. هذه أشياء ترتكز على عناصر تجريدية بنيت على كسر قانون الرتم والتكرار في الزخرفة الشرقية، واعتمدت على قانون الوحدات المتنوعة على مساحة واحدة». وفي ما إذا كان العمل متصلاً بتجربته أم مقطوعاً عنها، خصوصاً أن للمسابقة شروطها ومعاييرها، قال علي: «أعتبره جزءاً من تاريخي، لأنه يرتكز على رموز وإشارات لها صلة بتاريخنا القديم كما بتاريخي الشخصي. حين عدت إلى دفاتري ويومياتي، بعد إنجاز العمل، وجدت فيها كل الأشكال الموجودة على القِطع، بدون أن أرجع لها وقت العمل نفسه، وهذا دليل على أن الإنسان لا يتجزأ». ويؤكد أن قرار اللجنة بالموافقة بسبب «تلك المسحة الشخصية من جهة، والارتكاز من جهة أخرى على الإرث. في العمل حرية في التعامل مع المساحة والفراغ. لقد ابتعدت عن التشخيص، ولكن الإشارات والرموز مستوحاة من التشخيص، وقد تحولتْ إلى رمز وإشارة؛ المثلث رمز عشتار، والمربع رمز التماسك، والشجرة رمز للحياة، السمكة في تراثنا تتعلق بالرزق، السفينة هي تلك التي نقلت تراثنا الحضاري للعالم، السالب والموجب اتحاد بين شيئين يرمزان للخلود، النقطة هي حالة تكثيف للوجود،.. إشارات يمكن أن تفسّرها كما تريد، ويمكن أن تستمتع فيها للنظر فقط، من دون أي تفسير». أما أن العمل يشكل تحولاً ما في تجربة علي فيجيب: «لا أستطيع أن أقول إن هناك تحولاً من التشخيص إلى الإشارة والرمز، فأنا موجود لديّ شيء كهذا، ولكن العمل أخذ الحالة القصوى في الإشارة والرمز». وعن تقنيات العمل قال النحات السوري: «هذا العمل هو السهل الصعب على مستوى التكنيك. قلّما اشتغلت هذه المادة. اخترعت مادة تستخدم في الزخارف النافرة، مادة يمكن أن تعطي المعدن خاصية النفور والحركة. واستخدمت مواد خشنة وأخرى ناعمة تنسجم مع طبيعة كل مربع. كان الشهر الأول من العمل بالنسبة لي بين اليأس والأمل، فليس سهلاً أن تسيطر على المادة؛ مشكلات الوزن، التشوّه، القسوة،.. مسألة صعبة ولكني تعوّدت دائماً على التحدي، ودائماً أقترح أشياء جديدة على مستوى التكنيك. وأبحث عن المواد التي تناسب الأفكار الجديدة. حين اشتغلت عن الطيران بحثت عن البرونز الذي بإمكانه أن يقف على نقطة، ولدى العمل على موضوعة الدمار والتآكل اشتغلت على الخشب، واخترت الحديد حين أردت تناول الأبراج التي تربط الأرض بالسماء. أحياناً اختيار المادة الخطأ قد يضيّع الفكرة». ويرفض مصطفى علي فكرة المادة المفضلة، يقول: «ليس لدي مادة مفضلة، فالأفكار هي من تبحث عن المادة. حينما تحكي عن رجل أجوف عليك أن تبحث عن فراغ، قشرة، مادة خالية من المضمون. إن كثيراً من الفن اشتغل على مواد هشة، مهملة، مرمية، بقايا من أشلاء مواد فقدت وظيفتها تعود إلى توظيفها في مشروعك الفني لتعطيها قيمة جمالية حين تضعها في مكانها الجديد. بالتالي كل شيء مباح للفنان ليحقق أقصى ما يمكن من فكرة العمل». وحين نسأل الفنان، الذي وصل إلى ما وصل إليه اليوم من تأثير، سواء في حركة الفن، أم في حركة الناس في بلده، وذلك ليس حسب مجلة «أريبيان بزنس» وحدها، فالكل يعرف حي الفنانين الذي بدأت ملامحه تتضح في أحياء دمشق القديمة، والذي كان علي واحداً من أبرز أسبابه، حين نسأله عن أبعد ذكرى للنحت في حياته، يقول: «ولدت وتربيت على الساحل، في أوغاريت، قرب تل من الحجر الرملي كنت آخذ منه أشكالاً. التل الرملي المليء بالزعتر البري كنت آخذ منه الحجارة وأنحتها بأدوات كالسكين، وكان أمامنا جدول نأخذ منه الطمي لنعمل منه أشكالاً طفولية. كنت أنحت السمكة والصخرة والشجرة والأشخاص، حينما صرت في الإعدادية رحت أسأل عن كلية الفنون، منذ ذلك الوقت قررت أن أصير نحاتاً، وبدأ أسلوبي يظهر وأنا ما زلت في السنة الثالثة في الكلية. خلقني الله نحاتاً، كنت أمشي تحت أعمدة الطرقات، وأنتظر حتى يصير الظل المرمي على الأرض، الذي هو ظلي، طويلاً لأتأمل فيه. كنت منذ طفولتي أحب الأشكال الطويلة. هذا الشريط من الذكريات (الجبل الرملي، الزعتر، الطمي الذي يتركه الجدول على طرف النهر.. وحتى السير الشعبية التي كنت أسمعها من والدي) كان السر الذي أنقذني حين ذهبت للدراسة في إيطاليا، فقد كان سنتي الأولى هناك عبثية وأحسست بالانخلاع من حياتي وعالمي. وشعرت بشريط الذكريات ينقذني ويبني عالمي من جديد».
|