زينة عاصي يوميّات العزلة والصمت و... المدينة |
المقاله تحت باب معارض تشكيلية
من المعرض: لوحة «واحد زائد واحد يساوي ثلاثة» (مواد مختلفة على قماش ـ 200 x 130 سنتم)إنّها فنّانة شابة ترسم الصمت والعزلة. معرضها الفرديّ الأوّل، «مدينة وأهلها»، يستحقّ الاكتشاف في بيروت. لوحات تسكنها شخصيات متأمّلة، بين امتلاء وفراغ، في عالم متغيّر يعيش على تناقضاته. وحدها إشارات عابرة تشهد على مرور الزمن .
المدينة بأسرها تنتظر، كذلك الرجل والمرأة المرسومان في أكثر من بورتريه، كثيراً ما تكررا في وضعيّة واحدة. تتغير أحياناً حركة اليد على نحو طفيف، وفي لوحة أخرى تتغير نظرة العين، أو خلفيّة العمل أو لون الثياب. وعلى رغم النيّات المكشوفة لتعبيرات زينة عاصي (1974)، يفصح فنّها عن أكثر مما تريد أن تقول. إنّها تقدم نصّاً بصرياً عن علاقة الإنسان بالمدينة، وعلاقة البصر بالامتلاء والفراغ. المدينة هي بيروت المكتظّة المعقّدة، والفرد هو الوحيد المنعزل. هذا التناقض والاختلاف بين المدينة وساكنها يشغلان الفنانة اللبنانية وهي ترصد حالات الانتظار، انتظار ماذا؟ «أن تتغير أحوال بيروت». في غاليري «ألوان» (الصيفي)، يبدأ اليوم المعرض الفردي الأول لزينة عاصي بعنوان Cité & Citadins، حيث تعرض الفنانة ما أنجزته خلال ثلاث سنوات: 50 عملاً فنياً مرسوماً بالألوان الأساسية: الأحمر الواضح، الأسود المبهم، والأبيض المحايد، بينما يحضر غالباً الرمادي الكئيب في لوحاتٍ جاءت بأحجام مختلفة: طوليّة ضيّقة أو مربعة واسعة، أو بأحجام عادية متوسّطة. وإن كانت زينة قد بدأت أعمال معرضها الذي يستمر حتى 16 تموز (يوليو) المقبل، بمراكمة الطبقات اللونية على الكانفاس، فقد سمحت أخيراً للنسيج وخشونته بالمشاركة في بناء اللوحة، مستخدمةً موادّ مختلطة مع إكريليك تنتهي أحياناً بطبقة نهائية من الألوان الزيتية، وكثيراً ما تستخدم الكولاج. تقوم الفنانة التي درست فنّ الإعلان، بما يحلو لها في لوحتها: «أمزج أي شيء أجده مناسباً. ثمة لوحات في خلفياتها صور فوتوغرافية أو أوراق، فأنا لست أكاديمية في عملي. ليس لديّ مخطط مسبّق عن اللوحة، جمال الفن في الاكتشاف، فأين المتعة والدهشة إذا كنت أعرف قبلاً ما سأرسم؟». بدأت عاصي برسم المدينة على حدة والأشخاص على حدة، ثم رسمتهما معاً. حتى إن كانت هذه هي حال اللوحة، تبقى المدينة بعيدة وغامضة خلف الشخص الوحيد والمعزول والمتأمّل كما يظهر في معرض «مدينة وأهلها» (أو «مدينة ومدينيّون» إذا فضلنا الترجمة الحرفيّة). نحن أمام عزلتين إذاً: عزلة بيروت، وعزلة الفرد الذي ترسمه عاصي كئيباً رجلاً كان أو امرأة. لكنّ الفنّانة لا توافق على هذه القراءة: «لا أراهما حزينين بل متأملين». وبينما تكتظ لوحة المدينة بالتفاصيل، تترك عاصي لوحات البورتريه متقشّفة حتى يخال المتلقي أنّه يشاهد الصمت مرسوماً. الجسد غير مهم بالنسبة إلى ريشة عاصي، الوجه واليدان هما أساس الشخصية، بينما تقاس قيمة التغيّر ومعناه في لوحات متسلسلة من خلال حركة اليدين، مثلما هي لوحة «السبت، الأحد، الاثنين، الثلاثاء...»، حيث يظهر رجل مدخناً بالوضعية نفسها في سبع قطع طولية متراصة، السيجارة هي التي تنتقل من يد إلى أخرى، أو توضع في الفم لتترك لليدين حرية الحركة. كذلك هي المرأة التي تتخذ الجلسة نفسها، وفي كل مرة تضع يدها إما على خدها، أو على ركبتها، أو تشبك الاثنتين معاً في مجموعة لوحات معنونة «أحب هذا البلد، أكره هذا البلد، أحب هذا البلد، أكره هذا البلد...». اللافت حقاً، هو التشابه الكبير بين وجه الرجل في أعمال عاصي والوجه في لوحة «بورتريه للذات» للنمساويEGON SCHIELE (1890 ــــ 1918)، مثلما تشبه امرأة عاصي المرأة في «بورتريه للذات مع مزهرية سوداء»، حيث يظهر وجه المرأة ويدها على صدرها، مع حركة خاصة بالأصابع. وتقترب جلسات المرأة من لوحة أخرى لـ إيغون شيليه بعنوان «امرأة جالسة بقدمين مرفوعتين»، إنّهما متشابهتان حتى في تفاصيل الوجه والشعر الأسود الخشن المتروك على سجيته. مثلما يتضح تأثرها ببرنار بوفيه (1928 ــــ 1999) في رسم المدينة والبورتريه. وهو الأمر الذي تؤكده عاصي «تأثرت بشيليه كثيراً، وخاصة في رسمه لليدين حيث يظهر نحولهما وعروقهما». الرجل والمرأة في أعمال عاصي لا حيلة لهما أمام مدينة مهجّنة، كشفتها اللوحات من خلال فوضى تكوينها وهندستها المعمارية، ومن خلال انسحاق البيت التقليدي أمام المباني الحديثة وتلك المتهالكة. هناك سقوف حمراء وجدران خضراء ونوافذ بنية، وهناك أيضاً أنتينات تلفزيون، أسلاك كهرباء، وشجرة هنا وأخرى هناك. «كنت بحاجة إلى كلّ خط للتعبير عن قسوة الحالة وفظاظتها». أعمال المعرض وثيقة الصلة بعضها ببعضها الآخر، حتى تلك اللوحات الثلاث التجريدية، حيث اللونان الأبيض أو الأحمر يتسيدان المساحة. ذلك أن الأفكار والبنية الفنية لدى زينة عاصي متقاربة إلى درجة التطابق. تصرّ الفنانة الشابة على أنّها لا تقدم رسالة من خلال لوحاتها، لكنّ الأعمال المفتوحة على التأويل تدفع المرء إلى بلوغ تفسير واحد على الأقل. فلا مفرّ من أن يصاب الناظر إلى مجموعتها بالحيرة: هل ما نراه بقايا المدينة القديمة الآخذة في التلاشي، بينما الفرد يراقب مرور الخسائر عاجزاً؟ أم نرى فناً يفتح أبواب السؤال أمام جماليات خطاب بصري مديني جديد، تفرضه الحياة الحديثة؟ |