المعرض الدائم لمارون الحكيم في مزرعة يشوع |
المقاله تحت باب معارض تشكيلية الاستقرار الذي ينشده الفنان مارون الحكيم، في محترف أو متحف خاص بأعماله، يقابله لااستقرار في النتاج الفني أو في الوجهة الإبداعية التي نراها في أعماله. فالفنان المتنقل بين النحت والرسم والتصوير اللوني، يتموج في أعماله بين أساليب واتجاهات فنية مختلفة.
أخيراً استقرت أعمال الحكيم في مبنى قرب بيته في مزرعة يشوع، هو عبارة عن متحف خاص أو معرض دائم لأعماله، قد يعفيه من التنقل بين صالة وأخرى لعرض أعماله، ويحفظ تجربته، ويؤمن عرضها الدائم للجمهور، وأمام عينيه، حتى يتسنى له التأسيس على مقتضى ما سبق في أي جديد. بادرة مهمة، ليت كل فنان يستطيع أن يصنع من الضعف قوة، وينجز مثل هذه المهمة المفيدة له وللفن. وقد وجدنا في الصالتين/ الطبقتين المبنيتين بحجر صخري مكاناً لطيفاً «مكنكناً»، يختصر به الحكيم دفء الريف الرومانسي، خصوصاً أنه محاط بالصخور الطبيعية والشجر، ومسكون ببساطة مباني الريف. إبن المعمرجي، إذاً، أنجز العمارة التي راودته منذ كان يتابع منجزات والده، العمارة التي بناها كما يريد ويرغب. وقد ورث من والده أيضاً العمل على تكريم الحجر. كان والده يحوّل الحجر إلى مسكن للناس، أما هو فعمل على تحويل الحجارة إلى ناس يحزنون، ويفرحون، يعيشون في الماضي والمستقبل في آن. المنحوتات الحجرية التي عرضها مارون الحكيم في محترفه تذكر بذلك الإرث الأسري الذي عمل الفنان على تعديله وتطويره وإعلاء شأنه. في أي حال، ما زال مارون الحكيم النحات أكثر حضوراً من الرسام أو الملون، وأكثر صراحة، وأكثر تمركزاً، بل أكثر قدرة على اختصار حالات الإنسان وتكثيف مشاعر الفنان، ربما لأنه أكثر تجذراً. في أي حال، إن فرقاً واضحاً بين المعرض الاستعادي الذي أقامه مارون الحكيم في جامعة البلمند منذ عامين، والمعرض المقام اليوم، ذلك أنه، في المعرض الأول، قدم منتخبات من تجربته بكل تنوعاتها، ما يبرر التنوع الأسلوبي والمدرسي، عبر مراحل تجربة طويلة، أما التنوع الموجود اليوم في لوحات المعرض فيطرح تساؤلات، ويجعلنا نقف عند كل اتجاه يشكل انعطافة في المعرض، متأملين في تلك الانقلابات على الذات. ربيع وخريف
في نظرة بانورامية سريعة على الأعمال التصويرية الموجودة في صالتي المعرض، يمكننا ملاحظة التنوع في الموضوعات، بين لوحات المنظر الطبيعي، ولوحات التجريد اللوني، ولوحات المعذبين المحشورين في شق صخري ضيق. يتنقل من ربيع الطبيعة إلى خريف الوجوه والمتاهات، ومن باقات النور وسكنى الرغبات، إلى لبنان الذي لا يزال مصلوباً على حافة الانتظار المرّ. التنويع في الموضوعات أمر طبيعي في معرض يتنقل بين ست سنوات من العمل الجدي المتواصل كأنه رسالة. إلا أن ما يمكننا الوقوف عنده بالأسئلة هو التنويع الآخر، التنويع الفني، الذي يجعلنا نرى أكثر من فنان في المعرض. هنا الانطباعي الرومانسي، وهناك التعبيري الصارخ، وهنالك الواقعي القريب مما هو تمثيلي، وفي مقابله الفنان المغرق في تجريديته، والمنتقل إلى غنائية تجريدية، تستبعد حتى الشكل الشبحي. يدقق في الشكل مرة، ويحوله إلى مجرد ضربة لونية سريعة مرة أخرى. يحق لنا أن نتساءل هنا: هل نحن أمام فنان واحد يعرف وجهة سيره الفنية؟ أم أننا أمام فنان يصل القلق عنده إلى هذه الدرجة من الحركة الانقلابية؟ فلا يتحمل الركون إلى موقع فني، لذا نراه يهرب من نفسه إلى نفسه، أو ربما يتخطى نفسه بهذا القفز العاري الذي ينفذه من لوحة إلى أخرى، أو حتى من منحوتة إلى أخرى، وإن كان النحت، كما سبق وذكرنا، أقل انفلاشاً وأكثر تركيزاً على التعبير بمفردات يستخدمها في معظم أعماله الحجرية والخشبية، وإن كانت بعض أعمال معرضه الحالي الخشبية شردت عن هذا القطيع الفني. يجعل الحكيم اللون أساساً في مجموعة من الأعمال، لا سيما تلك التي يصور فيها الطبيعة، في حين يجعل الخط أكثر سطوة في مجموعة من الأعمال التعبيرية التشخيصية. أما اللون فهو يتنقل من درجات البهتان والجفاف والقتامة إلى الألوان الفاقعة الطرية والمضيئة لدرجة استخدام اللون الفوسفوري في إحدى اللوحات. ثم هو ينتقل، في تقنياته اللونية، من المسح الخفيف الشفاف، إلى الضجيج اللوني، والعجائن السميكة وحتى الوحشية في وضع الألوان. ومن الانسياب الأفقي الموجود في تصوير جسد امرأة ممدد أو امتداد سهل في الطبيعة، أو التعبير عن لانهائية طريق الجلجلة، إلى التشكيل الشاقولي المعماري، كما في تلك اللوحات التي نرى فيها الشق الصخري، أو المتاهة التي علقنا جميعاً فيها، ولا خروج سهلاً منها، وكذلك في ذلك الشق الذي تصنعه الأعلام اللبنانية المتصارعة، حيث وُفِّق الفنان في سحب الواقع إلى هيكل لوحته، فصار الشق الصخري شقاً بين الأعلام، علق فيه اللبناني الذي يصارع للخروج من ضيق هذا التناحر. التنويع الذي نراه في تشكيل لوحات المتاهة تلك، يشكل اللقيا الإبداعية في تجربة مارون الحكيم، وقد باتت هذه اللوحات سمة أساسية في تجربته، أو توقيعاً شديد الوضوح، رأيناه في ما قدمه لنا من خلال معارض كثيرة له في بيروت والمناطق. العذاب أكثر ألفة في نفس الحكيم، كما يبدو من قوة معالجته لموضوع المتاهة والتجمعات البشرية المصلوبة أمامها، وهذا ما نراه أيضاً في وجوه المنحوتات الحجرية، التي تعبر عن ذلك التجهم الأزلي للمفكر والمتأمل وما إلى ذلك من شخصيات المعرض، حتى أن تلك الزاوية الحادة التي أرادها لمنحوتته ساهمت هي الأخرى في إضفاء التعبير الذي نتحدث عنه. وإذا تطلعنا إلى بعض الأعمال الخشبية والحجرية التي يجسد فيها علاقات حميمية بين شخصين، وجدنا أن المعنى يذهب نحو حركة الانكسار في الرأس أكثر من إعلان الفرح. في أي حال، فإن 114 عملاً في معرض الحكيم (يستمر لغاية 22 حزيران، بين نحت خشبي وحجري، وبين تقنيات الأكريليك والزيت والغواش، تضعنا أمام تجربة تتحرك بشكل أفقي أكثر منه عمودياً، أمام تجربة جعلتنا نطرح بعض الأسئلة التي نعبر فيها بصراحة عن عدم تأييدنا لهذا الانفلاش في التجربة. لكن، قد يكون لدى الفنان ما يبرر هذا الانفلاش أو يدحض أسئلتنا. بل قد يكون الفنان نفسه أراد هذا الحوار واسعاً، في الأساس، عندما أفسح في المجال لكل هذا التنوّع. علّ في ذلك خيراً لم ندركه. |