هنــدســة مــزاج المــرأة |
المقاله تحت باب معارض تشكيلية الأناقة نفسها، والإصرار على تقديم لوحة أو منحوتة لا تقل عن سابقتها، بل تبلور التجربة وتزيدها عمقاً، وتبرز قدرة حسين ماضي على توكيد شخصية فنية متفردة ومتميزة، تلمع من بعيد.
المفردات نفسها، تلك التي وسمت شخصياته، منذ بدايات التجربة، المرأة والحصان والثور والطير، تستمر في معارضه المتلاحقة شبه السنوية، وإن بتركيز كل مرة على موضوع أكثر من سواه، وقد ركز في معرضه الجديد على المرأة بشكل أساسي، وإن حضر الحصان أحياناً، بما يعنيانه من لقاء للأنوثة والذكورة. وإذا غاب الحصان ظهرت رجولة الفنان المضمرة، كونه محركاً لمشاعر المرأة ولاعباً بها، وصانع مزاجها، ومقلباً أحوالها، شؤوناً وشجوناً. ولا تزال المرأة التي يتعامل معها ماضي بورجوازية أنيقة ممتلئة، وإن برزت بعض نساء هذا المعرض على قدر من النحافة المستجدة، وعلى قدر أكبر من القلق المسكون بهواجس النشوة والاسترخاء وأحياناً الشبق، لا سيما تلك المرأة التي تمتطي حصاناً أزرق، ذنبه يرتفع نحو الأعلى، وقوائمه تكبو تحت وهج أنوثتها وانفكاك مفاصلها فوق ظهره، وهي تضغط بمثلثها على نتوءات سرجه، خلفها، وعلامات الانتشاء على وجهها. هذه اللوحة تذكرنا بلوحة سابقة للفنان، وقد صوّر فيها امرأة مستلقية فوق ظهر الحصان، تحتضنه بشغف وشبق. المرأة والحصان، يضعنا وجودهما دائماً أمام حوار العيون والحوافر، الأنوثة السائلة والذكورة القاسية، وأمام الحنان المستسلم للخشونة. الواقف أمام المرأة في أعمال معرض حسين ماضي، ينتبه إلى إفراطه في التعبير عن تقاسيم جسدها، لا سيما تلك المسكونة بمفردات العيون والشفاه والصدر والأرداف، وما إلى ذلك من إشارات العبور نحو الأنوثة. نساء المعرض متأملات، منتظرات، ضجرات، مستسلمات ويتمطّطْن في منزل وثير. يستلقين على أريكة، أو يجلسن على كرسي، أو فوق ظهر حصان، أو يقفن أمام نافذة أو إلى جانب مزهرية. يقرأن مجلة، أو كتاباً أو يعبثن بدقائق الفراغ. عالم النساء
يدخلنا حسين ماضي إلى عالم هؤلاء النساء البورجوازيات، بل يسبقنا هو إلى هذا العالم، مفصلاً ومدققاً. يبتهج مرة بامرأة، ويسخر مرة من أخرى، لكنه في كلتا الحالتين يبدو مرتاحاً في هذا العالم الذي يتردد عليه كل مرة. لا يمكننا الكلام هنا على موديل يضعه الفنان أمامه، فلربما هو يستعير تفاصيل بعض نسائه أو مفردات حركاتهن من الشارع، ليركّبها على أجساد يُسكِنها تلك المنازل الفخمة، حتى أن التفاصيل الأخرى يمكن أن تكون ضرورة فنية، أكثر منها ضرورة لتمثيل واقع مؤتمن عليه.
هو يُدخل الكثير من التفاصيل التي تنسجم وتؤكد أجواء الرفاهية التي يصورها في اللوحات والمنحوتات، وقد شاهدنا الزهريات وصحون الفاكهة والستائر المدلاة خلف المرأة والطاولات، وما إلى ذلك من أشكال تكمل المشهد، وتعمل، في الوقت نفسه، على موازنة بناء العمل اللوني وتأليفه. فالتوازن في أعمال ماضي لا بد منه. توازن منطقي صارم في الكثير من الأحيان، فبالإضافة إلى التوازن اللوني، هناك توازن هندسي لا تثقله نزوة ولا تعكره فلتة خاطر أو جنوح خط. الهاجس الهندسي
أكثر من ذلك فإن الهاجس الهندسي للفنان موجود من خلال المفردات الهندسية التي تشكل مادة الرسم والتصوير والنحت. حتى أننا نفكر أحياناً أن الفنان يركّب أشكاله من هذه المفردات، بل يحوّل أشكاله إلى لعبة تنسيق هندسي، يستخدم فيها المثلث ومقطعاً من دائرة أقرب إلى ربعها، ومستطيلاً... الأشكال الهندسية تلك يستخدمها في كل الأعمــال، ما يضــفي عليها جواً خطوطياً يجعل الرسم يغلب على التلوين في اللوحات، لولا تلك البهجة التي يدخلها إلى ألوانه، ويجعل كتل المنحوتات مسكونة بتلك الخطوط أيضاً. والأهم أن ماضي يؤكد على الزوايا الهندسية الحادة في كل أعماله. على أن الخط الذي يضعه ماضي في اللوحات واضح وصريح، يأتي عريضاً وأسود في أكثر الأحيان، ليؤكد قدرته على احتضان المادة اللونية، وأمانته في تجسيد تلك الحدة التي يؤسس عليها عمله، والثقل المعدني الذي يريده له، في الوقت الذي يتناسب فيه مع امتلاء أجساد نسائه. هو يستخدم أحياناً الخط الأسود الرفيع، إلا أن هواه يقع أكثر على الخط العريض، الذي يتمادى به إلى درجة يتحول فيها، في الأماكن الضيقة، إلى تلوين للمساحة. خطوطه إما منحنية عاطفية مرهفة، وإما مستقيمة حادة قاسية وجارحة في نهاياتها. على أن التقاء هذين النوعين في مفردة شكلية واحدة، ينتج حواراً ضدياً يمزج بين ليونة المشاعر وقساوتها، ويربط بين الروح والجسد، ويحقق تلك الدينامية التي يتسم بها فنه. على أن الدينامية تستفيد أيضاً من قوة الحركة التي تضفيها الزخارف الشكلية واللونية التي تكثر في اللوحات، ونراها على ثياب النساء أو الستائر أو الأزهار، وتؤكد هندسة حركية، تنضم إلى هندسة الأشكال والخطوط، وتساهم في إحالة الأعمال على الفن الإسلامي، الذي كثيراً ما أكد ماضي انتماءه إليه والسير بهديه، كما يؤكده الإكثار من المساحات المسطحة، ذات البعد الواحد، البعيدة عن التظليل، الصافية لونياً، والحضور الطاغي للخطوطية. إنه فن إسلامي أو مستفيد منه، يقدمه حسين ماضي بصيغة منفتحة، طرية، تحتمل الكثير من الحضور الشخصي للفنان، بل تحتمل الكثير من الخصوصية الفنية التي يؤكدها في كل معرض له. فن يحتفي دائماً بالمرأة، المرأة المدللة، المرتاحة، الغنوج، الطرية، المثيرة، التي تفكر في جسدها حتى يعوم أمام ريشة الفنان، بكل نزواته وانفلاتاته الجميلة. |