نازلي مدكور: عودة الى زمن الرسم |
المقاله تحت باب مقالات معرض لأعمالها في متحف محمد محمود خليل
تجرد الفنانة المصرية نازلي مدكور الطبيعة من زخرفها البصري لتكتفي بخلاصاتها التي لا تخذل الحواس، بل تهب كشوفات تلك الحواس طابعا رؤيويا خلاقا. الأمر الذي يمكن اعتباره ازاحة لكل ثقة مسبقة بالنتائج الحسية المباشرة. هذه الرسامة تدفع بالحواس إلى مناطق اختبار، تكون الصور فيها أشبه بالممرات الهوائية التي تنقلنا مباشرة إلى ما بعد خيالها، إلى فكرتها عن الشيء المرئي وهو يتسع مثل فضاء لا حدود له. وبهذا يمكننا أن نرى من خلال الرسم ما يجسد الجزء المثالي من الصورة من غير أن نشعر بالحاجة إلى لغة الصورة المستلهَمة من الطبيعة الحية المجاورة. لن تكون الصورة ثابتة كما لو أنها خُلقت قبل صنيعها الطالع منها. تتخطى الرسامة الشيء إلى ما ينتج عنه. ما يبقيه حيا في الذهن، لا من خلال صورته بل من خلال الهامه. سيكون عليها إذاً أن تطارد أوهاما لتجسدها من خلال ضراوة انفعالها. ليست الزهرة بل عطرها. ليست الورقة بل نضارتها. ليست الشجرة بل نسغها. لا ترغب الرسامة في أن ترى أكثر مما ترى. تحيلنا رسومها إلى ما يمكن رؤيته لكن من خلال عينين قررتا أن تمرا باحترام سعيد بالحواس الأخرى وهما تبصران. سيكون لمفهوم خلخلة الحواس مكان بارز في تجربة من هذا النوع. أكتب عن هذه الرسامة لانها تفكر في الرسم من خلاله ولأني أرغب في أن أفهم اللغز الذي تتوارى خلفه الرسوم هربا من أن تكون مرآة للطبيعة. مَن يرى تلك الرسوم لابد أن يفاجيء نفسه بالقول: 'لا يزال الرسم ممكنا' وهو حكم يناقض الواقع، حيث صار الرسم مستبعَدا من كل اللقاءات الفنية الدولية. مدكور ترسم بحيوية مَن ترى الطبيعة لأول مرة. كما لو أنها لم تتعرف إلى المشهد العام. لم تر حديقة من قبل. برية أحوالها هي انعكاس لبرية خيال الطبيعة الهارب. الأصح أن نقول إن مزاج الرسامة، وهو يتلقى اشارات الهامية من مشاهد بصرية مرحة، إنما يستجيب بطريقة تنفي عنه صفة التابع الذي يؤدي خدمة في مكان عام. ما نراه في رسومها لن يكون سوى مشاهد من اختراعها. تتخطى الرسامة هنا مبدأ الانتقاء الذي سار على هديه الرسامون الانطباعيون لتتمسك بفكرة الخلق، وهي فكرة تعيد تعريف الشيء قياسا لما يمكن أن يُنتج عنه. سيرته الخفية. وفي هذا السياق يمكننا القول ان تلك الصور ما كان لها أن تكون موجودة لولا انها ظهرت مرسومة. ربما علينا أن نتذكر تجارب مونيه الأخيرة. وهي واحدة من أكثر التجارب حسما في تاريخ الفن (بالقوة نفسها يمكن النظر أيضا إلى تجربة تيرنر). لقد خرج الفرنسي كلود مونيه إلى التجريد من خلال إخلاص عميق للطبيعة. لم تكن الواقعية البصرية لتشكل دافعا مهما بالنسبة لهذا الرسام الذي فقد جزء كبيرا من بصره نهاية حياته، في الوقت الذي انتج فيه أعظم روائعه. مدكور في معرضها الحالي (قاعة أفق واحد في متحف محمد محمود خليل وحرمه بالقاهرة) تقتفي اثر مونيه، لكن بفارق لن يكون يسيرا. لدى مونيه كان هناك شعور عام بان الجمال يقيم في الشيء (الجزء المستلهَم والمنتقى من الطبيعة) أما مدكور فان خيالها يجري وراء فكرة الشيء المستلهَم باعتبارها وصية ذلك الشيء، ويده الخفية التي تظل تربت بحنان ورقة على مواضع ابتهاجنا العاطفي.
لم تكن نازلي مدكور (1949) رسامة صور. قبل أكثر من عقد من الزمن التقيتها في البحرين. كانت تقيم يومها معرضا هناك. لاحظت في رسومها تمرينا قاسياً للأشياء من أجل أن تختفي، تتوارى وإن بقيت منها خطوط تُذكر بها. أدهشتني محاولتها الخروج على تقليد مصري عريق: الوصف باعتباره ضرورة. في تلك الرسوم رأيت اختزالا لا يجرؤ رسام أو نحات مصري على القيام به إلا في ما ندر. هذا الحكم يشمل الشعراء والروائيين طبعا (حالة يوسف ادريس تشكل استثناء تشيخوفيا مذهلا). كان الوصف يلح عليها وتقاومه. يسبقها فلا تلحق به. يومها كانت ترواغ ببراعة. أما الآن فقد صار في إمكانها أن تتساءل بضمير مرتاح: ألا تزال هناك زهرة لم ترسم بعد؟ مثلما في الشعر حيث الكلمة التي لم تكتب بعد، هناك حقول شاسعة لا يراها أحد. حقول تركها الانطباعيون بكرا ولم تُلق عليها نظراتهم شغفها المجنون. ستكون لنازلي زهرتها الشخصية. ولكن لن يكون الانطباع هو الوصف الدقيق لما تتحقق منه الرسامة حين تنقل الشيء من مجاله الواقعي إلى مجاله الخيالي. رسوم مدكور تغير موقع الشيء في الطبيعة (الزهرة تحديدا) فلا تكون الطبيعة حاضنته، بل العين التي ترى. كل هذا الجمال يصدر من رغبة ملحة في الرسم. في رؤية الشيء مرسوما. حكمة تنحرف بالرسم عن مساره باعتباره فعلا بصريا محضا لتلقي به في فراغ تمتزج فيه الصور بالأصوات والروائح وتأثيرات اللمس. في رسوم مدكور ما من انطباع عابر، غير أن تلك الرسوم تخلو من السرد أيضا. فهي لا تسعى إلى تاليف واقعة أو المقاربة بين حدثين حسيين: الشيء والنظر إليه. تتخطى الرسامة فكرة أن يكون الرسم اعترافا بوجود الشيء إلى الفكرة التي تختبر قدرة الشيء على أن ينسى وجوده، داخل الرسم ومن خلاله. وكما يبدو لي فان الرسامة تراهن على أن يكون خيارها التعبيري في الرسم هو محصلة القوى التي تجعلها تفكر في الرسم باعتباره حلا لا يزال ممكنا. تقاوم الرسامة إذاً الرسم من أجل أن تبقيه حيا (ممكنا). بهذا المعنى فانها لا ترسم من أجل أن تقوي صلتها بطبائع الطبيعة المتغيرة، بل لكي تتحق من صلاحية الرسم على البقاء جوهرا لعلاقة لحق بها الكثير من الاضطراب. لذلك يمكنني القول ان نازلي مدكور تعيدنا إلى زمن الرسم الجميل (هي محاولة للإنقاذ ربما) يوم كان الرسم يشيد عالمه الخيالي إلى جوار عالمنا من غير أن يكون الرسام مكترثا بالمرايا التي تعدده اجتماعيا وتشظيه تاريخيا.
شاعر وناقد من العراق يقيم في السويد |