الرسام السوري فادي يازجي يروّض الوحشة باللون |
المقاله تحت باب مقالات يجدد فادي يازجي صلته الوثيقة بكائنات خرافية لم يستخرجها من العدم، بل هي نتاج عمليات مزج وصهر وتماه بين المعاني المتعددة التي يشي بها الوجود الإنساني. في معرضه الجديد المقام في صالة «نبض» في العاصمة الأردنية عمان، يوسع الفنان السوري دائرة الأنواع الفنية التي تبدو كائناته تلك من خلالها كما لو أنها تعيش اكثر من حياة واحدة. تلك الكائنات هي سواها دائماً، في الرسم كما في النحت كما في التركيب. فهي تتعدد وتختلف وتتناقض وتتوازى من غير أية رغبة في أن تستعيد ما كانت عليه في وجود سابق.
أتذكر صناديقه الزجاجية الصغيرة في مشغله الدمشقي وقد غصت بتلك الكائنات التي لا تشي بأي نوع من الجمال التزييني المريح. سلسلة من الوقائع التي يمكنها أن تكون بمثابة مرجع تصويري متخيل لأشباح تشبهنا. إنها تذكر بما عشناه يوماً ما في لحظة عابرة. أشباح في إمكانها أن تمشي إلى النهاية التي تخيفنا من غير أن تلتفت أو تشعرنا بالكدر. فهذا الفنان الذي يلهمه الشكل غير المكتمل خيالاً سعيداً، يود أن لا تتمتع أعماله بأي شعور بالكمال. قد يكون ما ينقصنا أهم بكثير مما هو بين أيدينا. يشير الفنان من خلال أعماله إلى ما يهدد كفاءة تلك الأعمال من جهة قدرتها على الإقناع. هناك دائماً فراغ يمكنه أن يرتجل وجوده داخل الصورة وخارجها على حد سواء، غير أنه في الحالين يكون بمثابة الإشارة التي تنهي الصلة بين طرفين متخيلين: الواقع الذي تحتمي به تلك الكائنات وهامش خيالها الذي ظلت ترجئ التعريف به. واقعية يازجي تتجاوز التعبير غير المباشر لتنشئ عالماً متخيلاً يتستر بهامشيته مؤقتاً. واقعية لا تتخذ من الوصف مهنة لها، وليس في نيتها أن تكون مرجعاً مستعاداً.
لم تعد الصورة ترهق هذا الفنان. لم يعد التفكير بالصورة يشكل عبئاً عليه. ذهبت عينه أبعد. فكرة الدمية صارت تثيره أكثر. الدمية التي لا يغريها شبه بعينه، بل إنها حتى لا تسكن الشكل الذي تتمظهر من خلاله في لحظة النظر المناسبة. لقد اهتدى يازجي إلى نوع من الأشكال الحيوية التي تكون مصدر الهام لذاتها. ما يشده إلى تلك الأشكال أنها تظل ناقصة ومتلهفة إلى قول لا يبدو أن لغة بعينها ستكون جاهزة لكي تكون حاضنته من خلال التعبير عنه أو الإشارة إليه. فتلك الأشكال التي لا تنتمي إلى زمن بعينه، لا تذكر بواقعة يمكن العودة إليها بيسر. هناك قدر كبير من الأسى يمكن التماهي معه من غير أن يكون البحث عن أسبابه مصدر قلق. ذلك لأنه ينساب بهدوء، من غير ضجيج، وبدهاء لافت. سكونية تلك الأشكال التي تذكر بالتماثيل البوذية لا تخفي سعيها القوي إلى إثارة الشقاق إزاء ما تود البوح به. فما من رضا استباقي ولا تسويات تراهن على يقين، هو في طور التشكل. ممتزجة بخيالها تقترح تلك الأشكال وجوداً ملغزاً لها ولمشاهدها في الوقت نفسه، إذ يشتبك البصر بها فلا يجد منجى إلا عن طريق التعرف عليها من الداخل. ما محاه الفنان من صنوف التعبير يظل بمثابة الخيط السري الذي يقودنا إلى أعماق عمله. هل يغوي يازجي طائره ليحل به في جسد إنساني أم أنه يهب إنسانه فكرة الطائر الغريب الذي يفيق كل نهار على نشوة متجددة؟ هذا النفي يتجدد مع كل عمل فني يحاور الفنان من خلاله عالماً غيبياً. وهو ما ييسر على الفنان استعادة حلم قديم. من خلال ذلك الحلم يتأكد لنا أن الإنسانية لم تطعن بعد في السن. لا تزال طفولتها تمشي بقدميها. لا ينكر يازجي الألم بكل فظائعه، لا ينكر الشعور العميق بالعزلة والتلاشي وتداعي الحقائق الجوهرية، غير أنه مرتبكاً ينظر إلى أفق في إمكانه أن يكون جامعاً بين الأضداد. انفصال أشكاله يتلاشى ويفقد ثقله البصري بعد قليل من النظر. شيء من السكينة يحل بعد هنيهات من الاضطراب. ولأن فادي يازجي (1966) يجتهد في محو كل علاقة من شأن وجودها أن يشكل قيداً يأخذ كائناته إلى مصير شكلي مشترك، فقد كانت حرية تلك الكائنات بمثابة مصدر الهام لتفكيره بالإثارة التي ينطوي عليه وجود يتحقق في منأى عن الرغبة في الاستيلاء على الآخر وامتلاكه. وبسبب ذلك الوجود الملآن تتسع الحكاية لتتشعب فتكون حكايات لها ناسها وطيورها ودماها وخفايا. هناك دائماً بعد آخر لم يشأ الفنان الاقتراب منه بل اكتفى بالإيحاء به، هو ما يشكل طوق نجاة أخير لكل الكائنات إن رغبت في أن تكون موجودة في زمان آخر. |