عراق منيرة موصلي بلاد تتنفس أبخرتها وبقايا كاهنات في المرج البعيد |
المقاله تحت باب نقد في معرضها الشخصي الجديد (الصبية تضيء ليلك يا عراق / قاعة البارح في البحرين) تنشىء الرسامة السعودية منيرة موصلي معادلة شديدة الحساسية قطباها المعنى الذي يخذله أي وصف ممكن في مقابل المعنى الذي يبتكر أشكاله من توافق ضروري بين دربة فنية تشكلت لدى الفنانة عبر مشوارها الفني الطويل وبين تقنيات فنية تعبر من خلالها المواد المختلفة عن تنوع تجليات الالم.
لذلك فقد حرصت موصلي على أن تكون موجودة في رسومها بقوة معاناتها الشخصية، ميزانا لقياس درجة ونوع الأثر الذي تخلفه الوقائع وراءها. كل خط، كل مساحة لونية، كل شكل تلقيه هذه الرسامة على السطح هو تجسيد حي لفكرتها عن انسانية تقاوم مصيرها الملتبس. وهو مصير يبدو في حالة ما جرى للعراق شموليا، نظرا للاضرار العظيمة التي لحقت بمعنى الوجود البشري من جرائه. فكرة هذه الرسامة عن وظيفة الفن، باعتباره نوعا من مقاومة الواقع عن طريق الوهم تفتح عينيها (عيوننا) على الحقيقة. بطريقة أو بأخرى فان الخلاصات التي تنتهي إليها هذه الرسامة انما تعمق الهوة بين واقع العيش وحقيقته التي يمكن أن تكون نوعا من الخيال. أشبه برمية نرد تصل إلى هدفها. سلوك متمرد يحفل بقوى قادمة من أماكن وأزمنة مختلفة. ' كل هذا الإرث لي' تقول الرسامة وهي تدرك ان ما يتسلل هاربا من يدها سيعود إليها في وقت لاحق. تسلحت بإرث الحقيقة لتكون مستعدة لمواجهة الواقع المضني. فجأة تفتح عينيك ان البشرية كلها قد سقطت في هاوية، أبعادها لا تسمح بتداول الهواء النقي. قدر هارب من الجحيم، حيث يكون الوصف الفردي نوعا من خيانة المشهد. لذلك غالبا ما كانت لوحات تأخذ هيئة الملحمة، تمتزج فيها الاسطورة (حيث تكون المخلوقات على موعد مع مصائرها) باليوميات الشخصية (حيث يستجيب الشقاء لأبعاده الملموسة). ما من شيء في عالمها يرضى أن يكون ثابتا في مكان بعينه. هناك ما يتغير فيها كما في رسومها وهو ما يجعلها وفية لقوة الرفض الكامنة في أعماقها. وهي قوة منحازة لمقاربة إنسانية تتصل بجذور الواقعة التاريخية الرافدينية. تنبعث رسومها من لحظة حرجة في التاريخ الشخصي كما في التاريخ العام. ليس في الإمكان الفصل بين طرفي معادلتها المتفجرة: الانفعال والفعل ومن ثم الذهاب بهذا المزيج إلى حافات الرؤية. الفعل هو شرط الرؤية لديها. هذه الفنانة ترى لتتأكد من قدرتها على أن تساهم في خلق اللحظة الإنسانية البديلة. يمكنني القول أن موصلي تجمع معجزات صغيرة تركها بشر فانون وراءهم لتكون شهادتهم على حياة مرت بهم ليكونوا من خلالها علامات لحياة لم تعش كما يجب. لذلك تشفق منيرة على كائناتها من أهوال العيش. 2 الصبية هنا والعراق هناك. والمسافة بين الإثنين في هذا المعرض هي أشبه بلغز اسطوري. لغز يتخطى صورته المحتملة. في تلك المسافة تعثر موصلي على ضالتها المبعثرة بين مشاعر مجروحة، لتنقب في تاريخ بلد اخترع الصورة المتخيلة ومرآتها الذهنية من خلال الكتابة. في حمى عاطفتها المثارة تعثر الرسامة موصلي على موادها لتنشىء بها عمارة يظهر جزء من مغزاها عن طريق امتزاج عجيب بين الواقع والخيال. وهو امتزاج سينعكس من خلال تقنيات الرسم. فإزاء ما جرى (لا يزال يجري) من وقائع دامية في العراق تبدي الرسامة امتناعا عن الوصف. بسبب عمق الالم تخونها قدرتها على النظر المباشر. شيء من اللمعان ينبعث من خلف العتمة. تتبع الرسامة ذلك النور لتخلص إلى الفن باعتباره محاولة للخلاص، يشكل الأمل بذرتها.
في رسومها ما من طبقة واحدة للسطح التصويري، وما من منظور واحد للنظر. تعالج موصلي موادها المختلفة ومشاعرها بالطريقة نفسها. ما تراه وما لا تراه يشكلان مادة لعدم تؤهله الرسامة للعيش مجددا، لكن من خلال الرسم هذه المرة. بالنسبة لها وقد اخترقت حرائق العراق روحها فان كل شيء صار قابلا للصهر واعادة التشكيل والتركيب والتجهيز من جديد. نوع من اعادة البعد الواقعي الجاهز إلى أصوله الخفية، هناك حيث تكون الطرق مفتوحة بين ما نبصره وما نشعر به. موصلي تضع يدها على الجرح لا لتصفه بل لتقيس من خلاله قوة للألم. ومن الطبيعي أن تحتل المرأة الحيز الأكبر من اهتمام الرسامة وهي التي عرفت بمواقفها الناشطة والجريئة المنددة بالعزل العنصري القائم على اساس الجنس. ولقد وجدت في الوضع المأساوي في العراق ما يعزز نظرتها المتمردة تلك. كاهنة المعبد السومري والهة الحب البابلي تمتزجان لتنتجا صورة الأم التي يتوارى خلفها ركام من المعجزات الخيالية التي تقاوم بذاكرتها ماكنة النسيان. ما لا يتسع له النظر، وما لا تتمكن الحواس من الامساك به مباشرة، وما لا يقوى على البوح بلغة عابرة هو الفضاء التراجيدي لشقاء اتخذته موصلي قاربا يصل بها إلى معنى الفن. وهو المعنى الذي تستدرج من خلاله وجودها كله باعتبارها فنانة نذرت نفسها للبوح بالحقيقة. الصبية ترى عراقا آخر. عراقا يأخذ بيد البشرية من جديد في دروب الكتابة المتمردة على صورة الواقع. 3 منيرة موصلي هي رسومها. في سلوكها اليومي نجد اشارات إلى تلك المعاني التي تستدرجها رسومها من عالم الغيب. وفي رسومها هناك ما يعيدنا إليها باعتبارها كاهنة معبد لا تزال ابخرته توشح خرائط بلاد منسية بعاطفة استثنائية، خلاصتها البوح الاخوي الصادق. هذا المعرض هو تجربة مستفزة في تآخي صور متناقضة (حيوية العراق في التاريخ تملي على من يتأملها نوعا من الثقة بتعايش التناقضات). صور لا تستوحش الغامض ولا تنكر الغريب ولا تتوقف طويلا عند المآثر البطولية. تمد موصلي يدها إلى مشاهد عيش، يصنعها العراقيون بقدر لافت من التلقائية لتكون مادة لتأمل شعري. هناك نغم خافت وصوت دافىء يذكرنا بحنان مفقود. ' هي ذي قارة ممكنة للسعادة خسرناها' كيف يمكننا أن نتأسى؟ لا تقدم رسوم منيرة موصلي كشف حساب لما خسرته الإنسانية في العراق، بقدر ما تضعنا على النقاط الحرجة، حيث لا يكون في إمكان الساعة أن تعمل من غير أن تملأ مرة أخرى. ' لقد توقف الزمن'. لهذا علينا أن نعيد النظر في حساباتنا. بل في كل شيء. صراخ منيرة موصلي لم يأت متأخرا. فالجريمة لا تزال ماثلة أمام أعيننا. هناك الآن خطيئة تعيد انتاج نفسها بأشكال متعددة. الالهام واقعة مستمرة إذاً، ما دامت ماكنة الجريمة تعمل.
رسوم موصلي لا تعمل على ايقاف تلك الماكنة فحسب، بل تسعى أيضا إلى تفكيك خيالها. وهو خيال شرير لا يمكن تدميره إلا من خلال العودة إلى الإرث العظيم الذي تمثله حكاية شعب صنع معنى لعبارته الشخصية. وهي عبارة تلخصها تناقضاته الجادة التي لم تأخذ يوما ما هيئة مزحة. بطريقة أو بأخرى تستعيد منيرة موصلي رسوم جواد سليم (رائد الحداثة الفنية في العراق) مثلما استعادت في تجربة سابقة رسوم يحيى بن محمود الواسطي، الرسام العراقي القديم، لتقوى من خلال تقنيات الرسم الخالص على أن تفترس المفردات التي ينتجها واقع يراد له أن يكون عراقيا، غير أنه في حقيقته يجسد الجريمة بكل أبعادها. تضع موصلي عراقها النقي في مقابل عراق أريد له أن ينزلق إلى الشر. عراق منيرة موصلي هو مزيج من التاريخ ومن نبوءاته. شاعر وكاتب من العراق يقيم في السويد |