نذير نبعة التقى عشتار في بساتين دمشق التشكيلي السوري الرائد في معرضه الاستعادي

المقاله تحت باب  مقالات
في 
04/05/2009 06:00 AM
GMT



 
لوحة من دون عنوان (أحبار على ورق ــ 36×27 )من قاهرة الستينيات إلى دمشق التي اتخذ منها ملاذاً لهواجسه وحدسه، فتَح لوحته ذات السطوح الناتئة والزهد اللوني، على مسالك جديدة ومتعدّدة. فرصة نادرة لإعادة اكتشاف تجربته الغنيّة بمراحلها المتنوّعة. وتحيّة إلى الفنّان الرائد الذي يحتل مكانة خاصة في الحركة التشكيليّة العربيّة

في المعرض الاستعادي للتشكيلي السوري نذير نبعة (1938) الذي تستضيفه «غاليري تجليات» في المزّة عند أطراف دمشق، ينتابنا شعور مَن يستعيد أرضاً منهوبة. فقد كانت هذه الأرض في الأمس القريب، بساتين تزنّر خصر دمشق الغربي. وبين جنباتها، كان الطفل نذير نبعة (1938)، يختبر عن كثب ألوان التراب، وأنواع الطيور، وثمار الرمّان والتفاح والمشمش، قبل أن يلتحق وهو في التاسعة بدكّان صغير في سوق الحرير في دمشق، ليرسم على ثياب النساء عصافير ووروداً، كان يختزنها في ذاكرته الطرية، لتتحوّل لاحقاً إلى مطرّزات ملوّنة في الورش المتخصّصة.

يتيح المعرض اكتشاف محطات أساسية في تجربة هذا المصوّر عبر تحولاتها الجذرية. ذلك أنّ نبعة لا يركن إلى منجزٍ نهائي على أهمية تجاربه في المحترف السوري. التشكيلي الرائد الذي درس الفنون الجميلة في قاهرة الستينيات بكل زخمها حينذاك، اختار «عمال مقالع الحجارة» مشروعاً لتخرّجه عام 1964، مأخوذاً بفترة النهوض المصرية التي أفرزت تجارب مهمة كان في طليعتها محمود مختار وجورج البهجوري ومحمود سعيد... وسنلحظ أواصر قرابة مع هذه التجارب لجهة الخطوط الخشنة وملامح الوجوه. لكنّ نبعة الذي عاد إلى دمشق إثر تخرجه، وجد نفسه فجأةً في مدينة دير الزور على ضفاف الفرات وتخوم الصحراء، مدرِّساً لمادة الرسم. ما سيفتح لوحته على مسالك جديدة، تنبش من البيئة المحلية أبعادها السردية ونبرتها التجريدية وألوانها الصحراوية. وإذا بالوجوه الصارمة بنظراتها الحائرة والمنهوبة، تضع اللوحة في مقام آخر، مكتفية بالبنّي المحروق الذي يشبه مفازة صحراوية، لا أمل للنجاة من هبوب رمالها، كما تقترب اللوحة في عمارتها من خطوط ومنحنيات الوجوه في التماثيل التدمرية.

هذا الزهد اللوني في اللوحة، سيتكشّف لاحقاً عن مناخات حلمية وأسطورية شديدة الثراء والغواية، تستمد من الأساطير الشرقية موضوعاتها: نساء وحشيّات بكامل فتنتهن وحليّهن وزهورهن يتنزهنّ في بساتين الشرق. وإذا بشهرزاد تتسلّل إلى سطح اللوحة لتعيد صوغ منامات جديدة، تتشابك خطوطها وألوانها بحسّ غرافيكي صارم، لا يهمل أي تفصيل على السطح مهما كان نافلاً. شهرزاد هي نفسها «حواء» في مرحلة مبكرة، وربما عشتار في حقبةٍ أخرى. كأنّ اللا يقين يصاحب هذا الفنان ليقوده إلى فسيفساء شرقية راحت تنمو على تخوم اللوحة، في اللون والخط والحدس. بعد عودته المتأخرة من باريس، التقط نبعة بوصلته المحلية بجلاء، بدلاً من انصياعه للمحترف الباريسي.

هكذا باتت رمزية دمشق في متواليته اللونية ملاذاً لهواجسه وحدسه، وربما رداً صريحاً على تيارات تشكيلية، لم يجد نفسه في نسيجها. في هذه الأعمال، يتجاور الجمال الشرقي الآسر لنسائه المسربلات بالحزن والفتنة، مع عناصر زخرفية، تؤكد على هوية محلية في تأصيل تجربته وبصمته الشخصية المغايرة، وجرأة إيروسية من دون مقاصد برّانية للوحة. العري في أعماله هو جزء حميمي من عناصر أخرى تشكّل خطوط اللوحة وأبعادها التعبيرية والرمزية. كما أنّ البعد التزييني في حضوره الشاعري، لم يطغَ وحده على الوحدات السردية في طبقات اللوحة وتوليفاتها الواقعية والأسطورية. هناك إذاً مسافة واضحة بين ما أنجزه نبعة بدأب ودراية وصمت والبعد الإعلاني والإعلامي لتجارب سواه. المرحلة التي أطلق عليها «دمشقيات» واستمرت طويلاً نسبياً، مقارنةً بمراحل أخرى، عبرت أيضاً أكثر من برزخ على الصعيد البصري. من لوحة «كاهنة مردوخ» التي أنجزها في منتصف الستينيات، وكانت نواة تجربته اللاحقة، سيفتح الباب على مصراعيه للحلم الشرقي بألوانه المبهجة وفتنته الطاغية، مفصحاً عن قيم الجمال الدمشقي، وذلك بتطويع العلاقة بين ما هو واقعي وأسطوري واستنفار جماليات الموروث الشرقي الشعبي في منمنمات مرسومة بدقة. ستختفي نساؤه من عمق اللوحة ليتركن عطرهنّ في المكان، حتى يكتفي برسم بساتين بأشجار متشابكة، كأنه استيقظ من منامٍ أسطوري على فتنة الطبيعة وحدها. ثم في تجارب أخرى، سيختزل العناصر كلها إلى مفردة واحدة، قد تكون ثمرة رمان، مشطورة إلى نصفين. لكنّ الرمانة ستخضع إلى إحالات إيروسية وحلمية أيضاً، كبعدٍ إضافي لتأنيث مراياه اللونية.

المحطة الأخيرة التي خاضها التشكيلي الجريء، تحمل عنوان «تجليات»، وهي مغامرة حقيقية فعلاً. فجأة، أدار نبعة ظهره إلى منجزه في مراحله السابقة، وذهب إلى أقصى حالات التجريد، بما يشبه انقلاباً على مختبره القديم. وإذا بسطح اللوحه أقرب إلى أشكال الصخور والجدران والكهوف وتضاريس الطبيعة. سطوح ناتئة وزهد لوني واضح، تتشرّبه اللوحة على مهل عبر ضربات شاقولية وأفقية كثيفة، تنطوي على إشارات تجريدية تشبه إشارات المتصوفة. كأنه يلوذ بعبارة النفّري المشهورة «كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة». مهلاً، سنجد في خلفيات أعماله القديمة ما يشبه سطوح لوحاته اليوم، لتصير هذه المرة متناً بالرمادي والأسود، أو بالأسود والأصفر، أو الأخضر النوراني، تبعاً لموسيقاه الداخلية وابتهالاته الصوفية، وإشراقاته الآسرة.