| جان ميشال باسكيا من قاع المدينة إلى المتاحف العالمية أمير الشوارع الخلفية يغزو العالم |
|
المقاله تحت باب فنون عالمية
1 عام 1960 ولد جان ميشال في بروكلين لأب من هايتي وأم من بروتو ريكو. في الخامسة من عمره أصبح أصغر الأعضاء في متحف بروكلين بعدما طافت به أمه بين متاحف نيويورك وصالاتها الفنية وهو الذي أخذ منها (من أمه) شغفا بتصميم الأزياء فيما كان ورق الهدايا الذي يجلبه أبوه من عمله يفتح عينيه على عالم يحتفي كل لحظة ببهجته. مبكرا عثر على مصادر فنه التي لم تتخطّ عناصر تربيته البصرية الأولى: افلام الرسوم المتحركة، نصوص مكتوبة بالفرنسية والاسبانية والالمانية، أفلام الفرد هيتشكوك، كتب المسلسلات، السيارات، وأخيرا الـ"كرافيت"، تلك الخربشات، خطوطا ورسوما، التي يتركها الصبيان المشاكسون على جدران المدينة تجسيدا لرغبتهم في التعبير الانتهاكي العابث. سيقال دائما إن جدران سوهو هي ملهمته الأولى. لكن باسكيا كان قد التقط من خلال حساسيته التي بدأت ناضجة الخيط اللامرئي الذي يصل به إلى الرقم السري الذي تنفتح من خلاله أبواب أعتى الحصون الفنية لفن مقبل من قاع المدينة غير المرئي. لقد بدأ باسكيا تجربته تلك في الرسم على القمصان الشبابية (تي شيرت) وبطاقات البريد الصغيرة، مستندا إلى تقنية هي مزيج من الارتجال والعفوية والعشوائية والكتابة المحتجة والخيال الجمالي العبثي. كانت يده تتخيل وصفاً لواقعة لم تحدث بعد أو أنها حدثت من غير أن ينتبه إليها أحد. ما فعله في البدء كان نوعا من الطيش الهامشي، رغبة في نقل الانتهاك الجماعي والسرّي وغير المذيّل بتوقيع إلى مكان آخر، مكان متحرك يكون في إمكانه أن يتحرر من عقدة ثباته وهي مصدر هلاكه ليصل برسالته بعيدا، حيث يكون حيا من خلال قدرته على الابلاغ. وفي ذلك لم يكن باسكيا يخطط إلى ما انتهى إليه فنيا. مشاركته الأولى في معرض جماعة نيويورك/ الموجة الجديدة عام 1981 دفعت بإحدى القاعات إلى احتضانه في معرض شخصي. بعد ذلك المعرض حقق حضورا لافتا عام 1982 في معرض "ديكومنته" العالمي في كاسل. بعد عامين بدا واضحا أن الفتى الأفريقي يمتلك من الحظ ما يؤهله لأن يكون نجما: لقد قرر أندي وارهول بكل ما ينطوي عليه وجوده الفني من دلالات تاريخية وفنية أن يقيم عام 1984 معرضا مشتركا مع هذا الفاتح الجديد. "أيقونته" صار شريكا له. بعدها بعام كان باسكيا أحد ضيوف متحف "ويتني". يحدث هذا في أميركا وحدها. يمكنني الجزم أن أوروبا لديها من المناعة ما يجعلها غير قادرة على المجازفة بهذه الطريقة. لما يبلغ 2 شبيه ماريلين مونرو، أم نوع من ارثور رامبو كان باسكيا هذا؟ كما أرى الآن، فإن شخصيته كانت مزيجا من المعجزتين. هو الذاهب إلى المجهول بقدمي رامبو، فيما كان قناع الشهرة الذي لبس وجه ماريلين يجرّه إلى الهاوية. حرر باسكيا الرسم من عقد بورجوازية كثيرة. غير أن البورجوازية قضت عليه حين سلّمته الى شهرة لم يكن مستعدا لتحمل أعبائها. لو أنه اختار الذهاب بعيدا مثلما فعل الشاعر الفرنسي، لما قضى بما يشبه الانتحار الذي انتهت إليه الممثلة الاميركية. فن باسكيا هو التمهيد الذي بدأ منه فن مختلف، سيكون له دويّه في السنوات اللاحقة. عام 1992 عرضت رسومه في 37 صالة عرض خارج الولايات المتحدة. عدد من الغاليريهات يقع في كبريات المدن العالمية (باريس، برلين، زيوريخ، بولونيا، مونتريال، طوكيو، سيول). أما في الولايات المتحدة نفسها فإن عدد معارضه لا يحصى. لا يكمن سر الاهتمام الاميركي والعالمي بفن باسكيا في موته المبكر، ولا في غزارته في الانتاج (كانت صناعة اللوحة بالنسبة اليه فعلا يسيرا إلى درجة كبيرة)، بل يكمن ذلك السر في رغبة الكثيرين، نقّادا ومهتمين وجمهورا، في التعرف الى واحد من أهم مصادر التحول في الفن العالمي المعاصر. ولا أبالغ إذا قلت إن باسكيا لعب دورا شبيها بذلك الدور الذي لعبه الفرنسي بول سيزان نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وهو الذي يلقّب بأبي الفن الحديث. نحن إذاً حيال خرافة أخرى من خرافات ثقافتنا المعاصرة. فمن يتابع أحوال الرسم في زماننا لا بد أن يكتشف أيّ أثر عظيم تركه ذلك الرسام في مفهوم الرسم. وكما أرى فإن احتضان أندي وارهول له في السنوات الأخيرة من حياته كان له معنى عميق: لقد شعر وارهول أن هذا الفتى القادم من الحياة المباشرة استطاع أن يحقق حلمه في فن هو الأكثر ابتذالا، غير أن ذلك الفن يبقى في الوقت نفسه محتفظا بقوة التعبير التي لا يمكن أن تسهو عنها العين. من المهم التأكيد أن اعتراف وارهول بفن باسكيا لعب دورا كبيرا في اطلاق نجومية ذلك الشاب، غير أنه من المؤكد أيضا أن دهشة وارهول كان لها ما يبررها من الاسباب. كانت الثمانينات ميتة على المستوى السياسي العام، وهي لا تذكّر البتة بالستينات الاحتجاجية. وحين يظهر فنان انتهاكي من قلب تلك السنوات الميتة فهذا معناه أن قدرا مختلفا قد حضر معه.
في حقيقته، لم يكن باسكيا يرسم بقدر ما كان يلهو. ألاعيب سحرية وضعته في قلب حقيقة لم يكن على استعداد لتصديقها. أميركا هي الأخرى تحب أن تلهو حين وضعته تحت المجهر مثلما فعلت مع ماريلين من قبله تماما. ما بقي منه يعنينا فعلا أو صار كذلك في ما بعد. الكثير من تقنيات الفن الجديد التي نواجهها اليوم في المعارض العالمية انما يعود مصدرها إلى فن باسكيا. صار الفتى العابث موجودا في القاموس حتى لو حاولنا غض الطرف عنه. أشياء كثيرة تذكّر به. لقد كان وسيطا بين القاعات الفنية والشارع. كان إبن الشارع الذي حل ضيفا على المتاحف ولم يكن ليحلم بما انتهى إليه. أعتقد أن وارهول فكّر مليا في المغامرة التي سيكون الفن ساحتها حين يكون باسكيا هو عنوان التحول. إنها نبوءة فنان كبير عرف كيف يسلّم عرشه، والى من، ومتى. ما فعله فن باسكيا لن يكون في إمكان فن وارهول الذي استنفد، أن يفعله. هل كان باسكيا ضحية وارهول؟ يمكننا أن نقول ذلك. فباسكيا لم يكن يحلم في أن يكون إلا تلميذا لوارهول، ولكنه في لحظة مفاجئة وجد أنه أصبح شريكا لمعلمه. هل يصنع التاريخ أقداره بهذه الطريقة؟ كان باسكيا إبناً للحظة مفارقة في التاريخ. لحظة جعلته يشعر بعبث ما يمكن أن يفعله في مستقبل أيامه الآتية. لم يعد أمامه سوى التخلي والذهاب إلى العدم. لوحاته الممتلئة بكل شيء لا تشي بذلك. نحن نقول أشياء كثيرة في الوقت الذي نكون فيه راغبين في أن لا نقول شيئا في عينه. موعظة رسوم باسكيا تكمن في أن تلك الرسوم لم تضع الرسم على مفترق طرق، بل دفعته إلى مغادرة عقد الذائقة البورجوازية ليتنفس من خلالها هواء الشارع المباشر. صار الرسم موجودا مثلما تختزنه ذاكرة الناس العاديين. هناك حيث لا رقابة مسبقة. شيء منه، شيء مفارق من خلال رسومه يتسلل إلينا في كل لحظة رسم. باسكيا هو الرسام الأكثر حضورا من بين الأموات في رسمنا المعاصر |
الفتى الخامسة والعشرين وكانت لوحاته تباع بملايين الدولارات.
3