معرض الخريف التاسع والعشرون لمتحف سرسق في بيروت... الفن التشكيلي الشبابي انتقادي ساخر |
المقاله تحت باب معارض تشكيلية ماذا يحمل المشهد التشكيلي الذي يقدمه متحف نقولا إبراهيم سرسق في صالون الخريف التاسع والعشرين لهذا العام؟ سؤال يطرح نفسه إزاء تظاهرة من أهم التظاهرات الجماعية اللبنانية، التي تشهد في هذه الآونة، وأكثر من أي وقت مضى، على حضور خجول إن لم نقل انسحاباً لجيل الفنانين المكرسين عن ساحة المعرض التي أخذ يتفرد بها الجيل الشاب والبراعم الفنية الجديدة. لكأن خيارات متحف سرسق تتجه الى تشجيع قدرات المواهب الناشئة على التجديد ولفت النظر الى الموضوعات والتقنيات والوسائل والخامات غير التقليدية في استنباط المعاصرة.
أكثر ما يلفت هذا العام هو كثرة الجوائز التي منحتها اللجنة التحكيمية للفنانين العارضين. ولئن كانت الأعمال التجهيزية قليلة وكذلك النحت، فإن ما طغى على المشهد التشكيلي هو لوحات متنوعة المدارس والأساليب، تتصف بتنوع الهواجس والرؤى: من الواقعية الى «الإيبرياليزم» ومن التجريد والسوريالية والفانتازيا الخيالية الى الحضور المتميز لفن التصوير الفوتوغرافي. بين أجنحة قاعة كوكب الاكتشافات (الستراكو) تم عرض 97 عملاً لـ 79 فناناً تشكيلياً، اختيرت من بين 307 أعمال لـ 141 فناناً. أسماء تطل للمرة الاولى وأسماء أخرى اعتدنا موضوعاتها وأساليبها. يشعر الزائر بأن الفن لا ينفصل عن وقائع الحياة اللبنانية بمنحاها السياسي والاجتماعي والمعيشي، ولكن هذه المرة بعيداً من الشعارات والمباشرة والمأسوية. احياناً بنبرة الفكاهة السوداء، والانتقاد والسخرية وفي أحيان أخرى، بنظرة ذاتية عارمة إلى العالم المحيط. قليلة هي الأفكار المجنونة، والشبان عقلاء أكثر مما ينبغي، إذ بين التقليد للتجارب المعاصرة والابتكار المنبثق من العين المحلية، ثمة ظواهر تتمحور حول عالم المرأة من زوايا الغرائز والحب والمرارة، فضلاً عن حميمية الأمكنة وذاكرة الشارع البيروتي بكل ما يحمله من دلالات ولافتات وشعارات ومشاعر وأحداث درامية. قد لا نجد المبررات الفنية كافية كي تمنح اللجنة جائزة متحف سرسق الى مي كاترينا عبود، عن تركيب منفّذ بمادة السيراميك، في عمل يسعى متأخراً وبلا مبرر الى رفع شعار «ذكرى حرب تموز»، فجاء كأنه يستدعي الحدث من بعيد، وبفكرة ساذجة تعتمد على التأويل في تفسير أشكال متموضعة على الطاولة، على أنها قوارب جنائزية! لا سيما في وجود أعمال فنية تفوقه أهمية! قد يكون سمير موللر ظُلم بتقاسم هذه الجائزة مع تلك الفنانة الناشئة، وهو التقني الماهر والخبير في إيجاد الايهامات اللونية البراقة والملامس الصعبة على السطوح المتداخلة، للخزف المطلي بالميناء، كما أطل في عمله «لمعان المادة». في لوحة زينة عاصي «لبنان الأخضر» (حائزة على تنويه لجنة التحيكم) وهي عبارة عن تلصيق ورسم بالحبر والأكريليك الملون على قماش، ثمة نبرة ساخرة انتقادية، لِشعار لطالما كان من الصفات التي صنعت مجد لبنان على مر التاريخ، بعدما تحول الوطن غابة من الباطون والأبنية العشوائية المتلاصقة، مثل العلب الكرتونية في تراكم يسد الفضاء، ويصل حدود الاختناق. ويستحوذ الفنان الفلسطيني عبدالرحمن قطناني للمرة الثانية على إعجاب لجنة التحكيم ليفوز بجائزة الفنانين الشباب عن عمل يستدعي بمرارة الذاكرة الفلسطينية في إسقاطات مباشرة على حرب غزة، مستخدماً صفائح التنك التي تذكر بهشاشة المساكن في المخيمات الفلسطينية مع القماش المجعلك، وهو يجسد واقعة من الوقائع الحية في حكايات هجرة عام 1948، حين حملت الأم لشدة الذعر المخدة بدلاً من طفلها. ومن مشاعر الريبة التي تنبثق من جدارية فلافيا قدسي، وهي تصور فتاة وحيدة تعشعش العصافير فوق رأسها، الى المواربة الخيالية التي تتميز بها لوحة انطوان منصور «أسد في قفص». وتنقلنا لوحة سليمان ضيا، الى النزعة الاستهلاكية التي تطغى على هواجس الجيل الشاب، ويتبدى هذا الحضور للعنصر الاستهلاكي أكثر في مطبوعة لودي أبي اللمع، من نوع السيريغرافي، تخاطب بأسلوب البوب - آرت، موضوع التدخين من خلال تكرار صورة للممثل رشدي أباظة، وتصف رلى شمس الدين، متاهات السوريالية الغرائزية التي تذكّر بالجرائم العنيفة ضد المرأة، في أسلوب تقطيعي - عضوي ومشهدية سوداوية. في حين تظهر أصص النبات، التي رسمتها ريما أميوني عمداً بالأسود والأبيض، كي تبدو مسلوبة من اللون، وتلفت تقنية يوسف نعمة في أسلوب الرسم والتلصيق والقشط والمحو، كما يتبدى في طبيعة صامتة تتموضع أمام العين بحيادية الألوان الداكنة. من بين الموضوعات الرائجة ثمة صور للوجوه تلفت من بينها بورتريه بتوقيع إيما حركة، وبعض الصور الشخصية لفنانين، منها ما يحمل نزعة واقعية تضارع الحقيقة على غرار الصورة التي رسمها أسامة بعلبكي لنفسه حاملاً وحدة القياس (حازت على تنويه خاص)، في رؤية محدثة متقاطعة مع القواعد والتقاليد الأكاديمية القديمة، في حين أن الثنائي لور غريب ومازن كرباج قد رسما لوحة واحدة (حبر صيني على ورق) بعنوان «أنت وأنا هيئتان ذاتيتان» (حائزة على جـــائزة لجنة التحكيم) تجسد بأسلوب شبه كاريكاتـــوري المظـــاهر الخرقاء لوجهــــين، محاطين بدانتيلا من الزخارف المنمنمة مع عبارات وحوارات يتبادلها كلٌ من الأم والابن الشغوفين بالرسم، للذة البوح أو الاعتراض. ويتحول الرسم الى فعل كتابة ليوميات العيش في المدينة، من شأنها أن تعكس بكثير من المزاج والعفوية والأسى، مشاعر الفوضى والضجر والمرارة: «رائحة بيروت باطون»، من كلام بلا سياق نقرأ ايضاً: «كيف لي أن اترك الحزن يستقوي على حياتي؟ فأنا ولدت متشائماً». وتبدو منحوتة زياد طرباه في تجسيدها لكائن أسطوري من نوع الديناصور، على شيء من الطرافة والدعابة سواء في التسمية «ديناميك» أو في المفاجآت المدهشة المتأتية من تحولات الشكل المصنوع من الحديد والخشب عند تعرضه للحركة. ويحافظ التجريد على مكانته في معرض الخريف، من بوابة الفنان العراقي حليم مهدي هادي، إلى لوحة رؤوف الرفاعي، المتميزة بقوة أشكالها المجردة وديناميتها، ثم تنقلنا جيزيل رحيّم إلى «صيف هندي» بألوانها الحارة المقطوفة من رحيق الأزهار وألوان البراكين. ونَهيم بلوحة جوزف شحفة، لفرط ما تحمله من ايهامات وخربشات وبصمات لونية وعلامات، وتلفتنا التقنية المتميزة التي يعالج فيها بسام جعيتاني موضوع «دائرة الكربون» من خيوط اللون الأسود، وتفيض مناظر حدائق ندى حبيش وشتاء آرام جوغيان، بالألوان الحارة، بينما تمطر لوحات جوزف حرب بالبياض، وتأخذنا دعابات نديم كرم الى سحر الطفولة المنسية، وتشدنا الى الهدوء الرصين شفافية شرائح الضوء ونوافذ الظلمة في التجريد الذي تزاوله أروى سيف الدين. وفي مجال التصوير الفوتوغرافي يتفنن بسام لحود في إبراز مهاراته التقنية، ويتبدى عنصر الإغراء في صورة التقطها جيلبير الحاج بحساسية لافتة، عبارة عن جورب أسود من الشبك في ساق (امرأة) تنطوي على الغموض الشبيه بالعمل التجريدي. وتدمج لوحة ألفرد طرزي «السماء زرقاء» بين التصوير الفوتوغرافي والكولاج، كي تروي هول الفاجعة الذي يكتنف حياً من أحياء بيروت، لكن بيروت هي 100 طريقة وطريقة بالنسبة الى شربل طربيه، هي البيوت القديمة التي تصورها تانيا طرابلسي من الداخل بحنين عجيب كي تكتب تحت كل لقطة عبارة: «أنا أيضاً أحبك». |