هالة الفيصل: أحبّ رسم الإنسان، لوحاتي كلها قصص

المقاله تحت باب  نقد
في 
23/02/2009 06:00 AM
GMT



السفر جعلها متعددة الثقافة فلم تعد محض سورية   

 لا شيء في مرسم هالة الفيصل لم تطله ضربات الريشة والألوان؛ السقف، الجدران، بلاط الأرضية، زجاج النوافذ، الكراسي، وحتى صينية الشاي. أما خزائن المطبخ فقد تقصّدتْ لونَها الأبيض لتستعملها للرسم في ما بعد. تقول »إن ذلك كله كان سبباً في رفضي بيع البيت أخيراً، فتلك الأشياء التي ألونها وأستعملها أصدقاء لي، ولي علاقة حميمة بها«. حتى الستارة القماشية في مرسمها عملت عليها كولاجاً من قصاصات قماشية تصور بيتاً تقول إنه بيت الحلم، وعليها أشكال مختلفة وعيون. تقول: »مرة تركت شاباً في موسكو، وكي لا أتعذب رحت أرسم هذه الستارة«. أسالها: إذاً كل قصة حب تنتهي بلوحة، تقول: »في إحدى الأمسيات الموسيقية كان الناس أزواجاً وكنت وحدي، شعرت بحزن شديد، عدت إلى مرسمي، خلعت ثيابي التي لم أر فيها سوى قناع، وارتديت ثياب العمل لأرسم حينذاك لوحتي الأجمل التي أسميتها »الجدار الرابع«، والتي قدمتها تبرعاً لمعرض أقامته نضال الأشقر كان ريعه لشهداء قانا. ولا أعرف الآن مصير تلك اللوحة التي أحبها كثيراً«. وطالما أن لكل لوحة حكاية فإن ذلك يأخذنا إلى سؤال المعاناة والإبداع، تقول: »حينما أكون في حالة سيئة جداً لا أستطيع الرسم، أفضل أن أكون مرتاحة. حينما أرسم أضع نفسي في مزاج جيد؛ موسيقا، نسكافه.. إذا أحسست بالحاجة إلى الهواء أصعد إلى السطح، وأرسم هناك«. وهذا يذكر بالطبع بكلام ماركيز: »إنني لا أؤمن بالأسطورة الرومانسية القائلة إنه يجب على الكاتب أن يجوع وأن تكون لديه هموم لكي يكون منتجاً، بمعدة مليئة وآلة كاتبة كهربائية يمكن الكتابة بشكل أفضل«.

لكن بداية هالة في الاتجاه إلى الرسم كانت بداية هموم ومتاعب، لقد تحوّلت إلى الرسم بعد تمزيق مفكرتها الشخصية، بسبب ما تحتويه من مشاعر خاصة »ولعلّي وقتها كنت أحب أستاذ اللغة العربية الذي كان يدقق لي أشعاري، ثم كنت قد كتبت في دفتري قصة أختي وكيف غرقت في البحر، وربما كان هنالك خوف من أن يسيء ذلك للعائلة. حينما جرى تمزيق دفتر كتاباتي قلت أريد أن أكتب شيئاً لا أحد يفهمه ويمنعه. لذلك ذهبت إلى الرسم، ولم أعد ثانية للكتابة«.

تتذكر هالة حكاية أختها الغريقة بكثير من الأسى، تقول: »بعدما أُنقذتُ من حادث الغرق الذي ماتت فيه أختي، تغيّرت نظرتي للحياة والموت، صرت أحس أن الموت يمشي معي جنباً إلى جنب«. تأخذ نفساً عميقاً وتتابع: »كنت طالبة بكالوريا في سن السابعة عشرة، وأختي أصغر مني بسنة واحدة. وقد ذهبنا في العطلة الصيفية إلى البحر، وفي الوقت الذي دُعي أهلي إلى فنجان قهوة عند أصدقاء لهم، ذهبنا، يدي بيد أختي إلى السباحة، قالت أختي: »بدّي أسبح كتير، وبدّي أتشمس كتير. لم يمهلنا البحر سوى دقائق، داهمنا الموت، ولأنني كنت الأبعد في البحر فقد اُنقذت أولاً، وأنا أصيح لينتبهوا لأختي، فيما هم يطمئنونني، ويقولون إنها سبقتني إلى الشاطئ«.

ناطورة الكروم

ليست نظرتها إلى الموت وحدها التي تغيرت، فهالة صارت تتطيّر من تبديل الأسماء، أختها، وكان اسمها الحقيقي نضال، هي التي ولدت العام ١٩٥٩ في خضم الوحدة السورية المصرية، وكان الأب الشيوعي مطارداً حينها، قررت أن تبدّل اسمها، خصوصاً أن أحداً لم يعرفها باسمها، كان الجميع يناديها نادو، بعد عام من تبديل الاسم داهمها البحر. تقول هالة: »صرت أتبحّر بالأسماء، وأشعر حقاً أننا أسماؤنا، وأن المرء يأخذ من اسمه، كما يأخذ الاسم من صاحبه«. ويبدو أن كل ذلك يأخذ هالة الفيصل إلى علوم أخرى وراء الواقع، خصوصاً حين تقول: »هناك من قال لي إنني كنت كاهنة في التيبت قبل ثلاثمئة عام«. ويبدو أيضاً أن هذا هو تفسيرها لعلاقتها بالناس، وكما لو أنها ناطورة الكروم تقول: »دائماً أشارك الناس همومهم وأصغي إليهم بحب. أحس دائماً بأنني صوت لهؤلاء الناس، الذين لا يستطيعون أن يتكلموا خصوصاً. اسمع هذه الحكاية؛ فور تخرجي في العام ١٩٨٣ ذهبت إلى مفتش مادة الرسم في وزارة التربية، على أمل الحصول على حصص تدريس، ولما كانت صورتي حمراء، باعتباري ابنة لعائلة شيوعية، وغير مرغوب بي في التدريس (كذلك استبعدت والدتي من قبل)، فقد ألقيتُ في المخيمات الفلسطينية، كانوا يظنون بالطبع أنها ستكون رحلة شقاء وعذاب لي، لكن على غير ما يظنون كانت من التجارب الأكثر فرادة وروعة، فلقد تعلمت من هؤلاء الكثير، هؤلاء الذين يبقون أسبوعاً من دون أن يبدلوا ثيابهم وتبقى الابتسامة مع ذلك على وجوههم، صرت مثل مرشد اجتماعي، أزورهم في بيوتهم، وكانوا لأول مرة يجدون من يعلمهم الرسم كما يجدون أحداً يستمع إليهم«. أتذكر كوستكا في رواية »المزحة« لميلان كونديرا وكيف ألقي به في معسكرات الشقاء، وقد راح يردد: »كان أعدائي يظنون أنني سأتفتت عذاباً. يتخيلون أني سأحس بحريتي محددة، وكانت تلك بالضبط البرهة التي اكتشفت فيها لنفسي الحرية الحقيقية. فهمت أن ليس للإنسان ما يخسره، وأن مكانه هو في كل مكان، في كل مكان ذهب إليه يسوع. وهو ما يعني: في كل مكان بين البشر«.

في ذلك الوقت أقامت هالة معرضاً فردياً »كان كلّه بورتريهات لطالباتي«. كأن البورتريه ليس مجرد رسم بقدر ما هو اكتشاف للآخرين تقول: »أنت ترى روح الإنسان في وجهه. العين مفتوحة على الروح. ترى الإنسان كله في عينيه ونظرته. البورتريه لا يستنفد«. ولكن صورتك، ألا تستنفد؟ »أنا لا أخترع شيئاً جديداً، كثير من الفنانين لجأوا رسموا أنفسهم، من دافنتشي إلى رامبرانت وبيكاسو، وعموماً ما الذي تراه في أعمال الفنان غير صورته هو. إذا كان العمل لا يشبهه لا يكون صادقاً. ثم إنني لا أصور نفسي دائماً، وأتمنى أن يكون عندي موديل أشتغل عليه. في أميركا كان هناك موديل، ولكن وضعي المادي لم يكن ليسمح أن آتي بموديل إلى البيت، كنت أرسم موديلاً عارياً في البوزار. أما هنا فلقد تخرجت من الكلية ولم أرسم موديلاً عارياً، هذا يقيم شرخاً؛ تدخل إلى درس التشريح وتتعلم العضلات ومواقعها، ولكن ممنوع عليك أن تكسوها باللحم. في موسكو وألمانيا ونيويورك رسمت موديلاً بوضعيات مختلفة. أنا أحب رسم الإنسان، أما أن تظل ترسم طبيعة صامتة، وترسم دمشق القديمة، فقد صار عندي ردّة فعل مضادة. أنا أهتم كثيراً بالعوالم الداخلية للإنسان، إلى حد أنني كنت أحب أن أدرس تربية وعلم نفس لأدخل روح الإنسان، لذلك حين أرسم أصوّر عقل الإنسان وروحه، لا أعرف أن أرسم صورة، أرسم الإحساس الذي يوصله إلي الإنسان. ربما بحكم التربية وثقافة الممنوع صار لدي حب للاكتشاف، ما الغلط وما البشع في الجسد ينبغي لنا أن نغطيه؟ الله خلقنا هكذا، لأنه سمح لنا للتمتع بالجمال، وإلا كان خلقنا بالجلابيب مثل كيس فحم. لم يتوفر لي موديل فرحت أحياناً أستعين بنفسي، رسمت وجهي فقط أما جسدي فلا أستطيع رسمه. مرة واحدة رسمت لوحة لامرأة تصرخ وتستر حضنها قطعة قماش، لم ير اللوحة أحد، وفيها استخدمت نفسي لأرسم امرأة أخرى تصرخ«.

وإذا كانت هالة تقول إنها لا تستطيع أن ترسم جسدها، فالأمر تقني محض، لكن يمكنها لا أن ترسم جسدها وحسب، بل وأن تستخدمه لاحتجاج مدوّ، كذلك فعلتْ حين رسمتْ على جسدها بيانات ضد حرب العراق. وقفت في ساحة وسط نيويورك أمام المصورين وقد كتبت على جسدها »لا للحرب« و»أوقفوا الحرب« وشعارات أخرى. لم تنته الحرب بالطبع، ولكن هالة أثارت زوابع في الأوساط العربية. أذكّرها بالحادثة فتقول: »لا أعتبرها حادثاً بل احتجاج. وأستغرب أن لا شيء سبّب أذىً للعرب غير الاحتجاج بهذه الطريقة، ألم يهنكم أن فلسطين ضاعت؟ وأن نساءكم تغتصب..؟ هناك شيء شخصي بداخلي؛ أنا بداخلي رفض للظلم، وتربيت على أن أكون صادقة مع نفسي، وأكثر ما يهينني السرقة والغش والخداع والكذب، لكنك تخرج إلى المجتمع لتراه قائماً على كل ذلك، ولتجد أن الشرفاء بلهاء ومنبوذون«.

بلاد حقيقية

ولأن هالة مارست ذاك الاحتجاج بعد وقت قصير من حصولها على الجنسية الأميركية، يخطر لي أن أسألها كيف تقبلين، وأنت سليلة عائلة شيوعية، أن توصفي بأميركية من أصل عربي، تنتفض هالة وتقول: »لا أحب توصيف أميركية من أصل عربي، فدمي لا يتغير، ولكن السفر جعل لديّ ثقافات مختلفة فلم أعد محض سورية. أضيف الكثير على شخصيتي. في الخارج بنيتُ ثقتي بنفسي. كنت أحس طوال فترة وجودي هنا أنني لست في المكان الصحيح. السفر أنقذني وجعلني أوافق على نفسي. السفر يجعلني إنساناً جديداً، ومنذ اللحظة التي أصعد فيها إلى الطائرة أروح أسمع صوت حرية التعبير. هناك تجد الناس لا خوف لديهم كما لدينا، تحس بأنهم يحبون بلادهم، بلاد حقيقية فيها أنهار حقيقية ومقاه ومطاعم حقيقية. في مدينتنا تحار إذا أردت العثور على مطعم أو مقهى. كذلك فإن العلاقة مع المرأة في الخارج مريحة أكثر، فمن فرط ما قُمع الناس عندنا صارت المرأة مخنوقة إلى حدّ أنها صارت تكره الأخريات القادرات على عمل شيء. لا عمل سوى الغيرة والحسد. بالطبع هناك استثناءات، ولكنها الاستثناءات التي تثبت القاعدة«.

هربت هالة من الكتابة التي تفضح، إلى الرسم الذي يموّه ويخفي، فهل استطاعت أن تموّه حقاً، وكيف قرأ الناس أعمالها: »ما يراه الناس مختلف كثيراً عما أريد. حين تخرج اللوحة من يد الفنان تصبح العلاقة مع المشاهد مباشرة ومن الخطأ التدخل فيها«. وعن علاقة لوحتها بالأدب، هي التي تستعمل للوحاتها عناوين أدبية، أو تضع أشعاراً وكتابات فوق اللوحة، تقول: »لوحاتي في النهاية كلها قصص، باعتباري أكتب قبل أن أرسم«. ولكن من هم أساتذتها في الرسم: »تعلمت الرسم في حمص على يد الفنان أحمد دراق السباعي، لولاه لما كنت رسامة. أما فاتح المدرس فقد كنت أذهب إلى مرسمه وأريه لوحاتي. أنا لم أكن أعرف ما أريد، هل أنا في الفيزياء أم في غيرها، فقد كنت أحب العلوم والاكتشافات. أحياناً أقول لنفسي ليتني كنت في مجال علمي، لكنت تعذبت أقل، فهؤلاء أحاسيسهم تخبو، وقد يكون مرضياً علي اجتماعياً أكثر. لا أعتبر أن كلية الفنون علمتني. غالباً كنت أعمل الأمور لوحدي من دون أستاذ. وأنا بشكل عام كنت أنفر من المدرسة، رغم أنني الأولى في الصف. لا أحب المدارس والمؤسسات وأحس أنني مخنوقة فيها. أساتذتنا كانوا ينظرون إلينا دائماً بتعال. لذلك لا أحب أن أكون أستاذة مع أنني درّست واستنفد التدريس كل طاقتي. كان صعباً أن أرسم وأدرّس معاً«.