شيخ الفنانين اللحام: عمّان مدينتي.. وأحلم بتدوينها تشكيلياً |
المقاله تحت باب مقالات حاوره: رسمي الجراح - حين تعبر بوابة بيت الفنان التشكيلي الأردني رفيق اللحام، يستقبلك وبيديه اللون والقهوة. بيت اللحام متحفه الذي لا يمل التجوالَ فيه، يكتشفه كل لحظة. إنه الكنز الأثمن، ألوان من كل أرجاء العالم تغمر حيطان البيت، لوحات جمعها من حر ماله، يدقق في تواقيع الفنانين ويهزم غبار السنين. متحفه يضم آلاف اللوحات والمنحوتات. لا يرتاح إلا بضجيج اللون.
اللحام فنان غير متكلف، دقيق الملاحظة، متحفز، مزدحم بالحبور واللون والأفكار، مثابر، أمضى سني عمره يقطف من شجرة الحرف الإبداع، ومن الإرث والحرف العربي جعل للّوحة العربية هوية وخصوصية. تهجى اللون باكرا، وهو ابن بيئته وابن القضايا العربية، بيته يجسد المشهد التشكيلي الأردني. حينما ضاق محترفه عن استيعاب منجزه الفني الثري ومقتنياته من لوحات الفنانين العرب والأجانب، عمد إلى احتلال غرف البيت الأخرى وصالاته وحديقته، وحتى مضجعه، حتى أمسى البيت متحفا لا ينقصه سوى الإشهار. هذا هو اللحام، أينما حطّ يلوّن، يبني، ويواصل بناء خليته الضخمة بالألوان. عندما تتاح لك زيارة محترفه، تتعرف إلى الفن التشكيلي الأردني، وجزء من التجربة التشكيلية العربية من خلال اللوحة، وعبر جولة تطول بين الدرجات، تتعرف إلى مسيرة الفن وارتباطها بعمان والأردن، وحين يفرد أمامك الوثائق التي يمتلكها يتملكك الفخر والإعجاب بالفنان الذي بنى إبداعه وحفر مسيرته بالجهد والعمل. ولد اللحام في دمشق العام 1932، أنهى دراسته في دمشق بدار الصناعة والفنون، درس الفن في أكاديمية إنالك، ومعهد سان جاكومو في روما- إيطاليا، وفي كلية الفنون الجميلة التابعة لمعهد رونشستر- نيويورك، درس الخط على يد الخطاط حلمي حباب، والخطاط بدوي الديراني. من مؤسسي اتحاد الفنانين التشكيليين العرب في العام 1971، ومن مؤسسي رابطة الفنانين التشكيليين الأردنيين، التي ترأسها في العام 1979. مثّل الأردن في مؤتمر الفنون الدولي (I.A.A) بأمستردام- هولندا، في العام 1969. أقام عشرات المعارض الشخصية، وشارك في معظم المعارض الجماعية الأردنية منذ العام 1951، ولوحاته موجودة في عدد من المتاحف والمؤسسات ولدى العديد من مقتني الأعمال الفنية. أقام مع الفنان الأميركي بول لنجرن دورة لفن الطباعة Etching في مركز كندي في بيروت في العام 1969. نال الدرع الذهبي ووسام الشرف من الاتحاد العام للفنانين التشكيليين العرب في العام 1981 بوصفه أحد رواد الفن في الوطن العربي. كان أول من عرض تجربة في مجال الجرافيك في الأردن، وذلك في العام 1996، في المركز الثقافي الأميركي بجبل عمان، حصل على وسام الكوكب من الدرجة الثانية من جلالة الملك الحسين في العام 1988، نال جائزة الدولة التقديرية للفنون التشكيلية في العام 1991. ونال جائزة رابطة الفنانين التشكيليين الأردنيين في العام 1993. قام بتدريس الفن في معهد الفنون الجميلة، والمدرسة الأميركية، وجمعية الشابات المسيحيات، ومعهد النهضة العلمي ،وفي مرسمه بعمان، حصل على عدد من الأوسمة الرفيعة من المغرب وفرنسا واليونان. قام بتصميم العشرات من طوابع البريد التذكارية والشعارات والشهادات والميداليات والعملة الأردنية، عمل في القصور الملكية العامرة لمدة ثمانية أعوام (هندسة القصور الملكية)، عمل في وزارة السياحة والآثار في معظم الأقسام، وكان آخرها مساعدا للأمين العام. الثقافي التقى اللحام، وكان الحوار الآتي: الثقافي هل تعتقد أنك أوصلت خطابك الفني من خلال لوحتك إلى المتلقي، بعد هذه المسيرة الطويلة من الإبداع الذي راوح بين التصميم والرسم وتدريس الفن؟ - أعتقد أنني لو أوصلت للمتلقي فكرة واحدة، أو لحظة استمتاع بلوحة ما، أو لفتُّ نظره إلى فكرة ما، فان خطابي الفني وصل إليه، ورسالتي كذلك. يجب أن يكون خطاب الفنان متعدداً، فهو مبدع، ولديه رؤية مغايرة لكل شيء، فهو باحث ومجرب، وليس مؤدياً لدور ما ينتهي بانقضاء النهار أو الليل. هناك فنانون من أتباع المدرسة الانطباعية مارسوا الطباعة اليابانية بطريقة السيليغراف، وكانت لهم نتائج مبهرة، هنا أتساءل: ما الذي يمنع الفنان أن يتعرف على التقنيات التي يعمل بها فنان آخر، بل ويجرّبها، لأن الممارسة تفتح المجال للمنافسة، وبالتالي تتسع دائرة الإبداع. الثقافي هل انتهى عصر اللون وباتت الخامات هي المتسيدة في اللوحة أو المنجز الفني؟
اللوحة تنبني على الخط واللون والموضوع، ولكن تطورت اللوحة مؤخراً باستعمال التقنية المميزة في إضافة البروزات والكشط واستعمال مواد متعددة وكذلك اللصق (الكولاج) لتضيف اللوحة بُعداً فنياً جديداً إضافة للخط والمنظور، لا، لن ولم ينته اللون، وما دام في مخيلة الفنان فكرة، وفي الطبيعة لون، سيبقى الفنان ملوناً يحاكي إبداع الخالق. في اعتقادي أن على الفنان أن يجرب جميع الأساليب، وأن يطرق كل المواضيع، فهل يعيب الفنان أن يرسم الطبيعة في بلده، من جبال وسهول ووديان وأشجار وأنهار، أو أن يرسم الأزهار والورود، أو يرسم براءة يشع بها وجه طفل، أو تجاعيد الزمان على وجه عجوز رجلا كان أو امرأة، وأيّ شيء أجمل من جسم الإنسان. يقول الله تعالى: وخلقنا الإنسان في أحسن تقويم . لا بد للفنان أن يطلع على جميع أشكال الفن والتصميم، ويواكب التطوير فيها، لأن التنويع يثري، ومن شاء أن يتخصص فلا مانع أبدا، ولا يعيب الفنان أن يكون مطلعا، يجرب في جميع صنوف الأشكال الفنية. فالفنان الإيطالي ليوناردو دافنشي مثلاً، جمع بين أشكال كثيرة من صنوف الإبداع، كالعمارة والتصميم والرسم والاكتشافات العلمية وحتى الطبية. حقيقة التخصص في نوع محدد من الفنون أمر يحبذه كثيرون، لكن من الضروري أن يتعرف الفنان إلى آفاق أخرى، وإلا لبقي حبيس حالة واحدة، غير قادر على تطويرها وتجديدها. الثقافي لماذا يتوارى النقد عن الحفر في التجربة التشكيلة، بحثاً وإثارة للعواصف الفكرية؟
- غاب النقد، لعدم وجود نقاد فنيين في بلدنا، باستثناء عدد محدود، فاتخذ الكثيرون من كتاباتهم عن الأعمال الفنية إما وصفاً سردياً لحجم اللوحة أو المواد المستعملة فيها، مع آيات الثناء والمديح إن كان الفنان تربطه بهم صداقة، والعكس صحيح، فبعض النقاد يتجاهل فناناً صاعداً مبتدئاً، ولا يتنازل بالكتابة عن معرضه وأعماله الفنية. ثم إن النقد الصحفي وضع بعض الفنانين في غير مكانهم، رغم أن الحركة التشكيلية الأردنية وُثقت صحفياً ولم تُوثَّق نقدياً. الثقافي هل كنت تبحث عن هوية فنية محددة، وهل وجدتها؟ - البحث عن الهوية مهم، سواء لي أو للفنانين العرب الذين درسوا في أوروبا أو أميركا وبقية بلدان العالم، إذ أرادوا تمييز لوحاتهم عن اللوحة الأوروبية، فلجأ عدد منهم الاستغلال تراثهم ونماذج من آثارهم أو فنونهم الشعبية، وعدد منهم لجأ إلى استغلال الحرف العربي الذي يتمتع بجمال رائع، ويعد من كنوز حضارتنا بليونته وانسيابيته وإمكانية التشكيل فيه، وكنت واحداً من هؤلاء، فاستعملت الحرف لآيات أو جمل، وكذلك كحرف مجرد. الفنان لا يخفي الفكرة التي تتجول في مخيلته، ول يسعد كثيرا بطرح الجديد للجمهور، وأرى أن كل جديد مساهمة في النسيج الفني البصري العام ضمن الحراك الفني العالمي. الثقافي لماذا لم تذهب إلى منطقة التجريد للآن، رغم أن التيار جرف الكثيرين، وما رأيك بهذا التيار؟ - لي محاولات في التجريد، لأنني أبحث دائماً في التجريب نجحت في ذلك أو لم أنجح، ولي تجربة تضم مئات اللوحات التي اعتمدت على التجريد. التجريد مساحة حساسة، ولا بد من الذاهب للتجريد أن يكون قد ترك خلفه سنوات طويلة من التجربة والبحث، والتجريد لا يعني ضياع الهوية اللونية، إنه ليس تهويمات أو تدجيلا لونيا كما يحلو لبعضهم أن يخدع الناس والجمهور. الثقافي البنية الثقافية العربية العامة مصابة بهشاشة فكرها، هل انعكس ذلك على الفن التشكيلي؟
- مجموعة الانكسارات والهزائم التي منيت بها الأمة تفرض واقعا فكريا صعبا، وكذلك تؤثر في رؤية الفنان رغم أن الفنان لا بد له من التعاطي مع الحالة بطريقة مغايرة، ويرسم ويقدم الإبداع، لكن تخلى الكثيرون عن إرثهم، وعجزوا عن تقديم لوحة تدافع عن قضايانا. الثقافي هل من الضروري أن يتكئ الفنان على ذاكرةٍ ما.. المكان مثلا، أو الذاكرة الشعبية، أو التاريخية، أو الاسطورة.. وهل يعدّ ذلك عجزا، أم مجرد محاكاة تخيلية؟
- ليس عجزا أن يتكئ الفنان على أي مصدر، بل إن ذلك احترام وتقدير من الفنان لما يتناوله. في تجربتي الفنية استندت إلى الكثير من الرموز والمفردات الشعبية من القباب والبوابات والزي العربي والنباتات العربية والوحدات الزخرفية الإسلامية، وغير ذلك من الرموز الشعبية. وفي هذا المجال أشير إلى أهم المفردات التي ضمنتها للسطوح التصويرية في لوحاتي، وهي الرسومات النبطية التي يعود تاريخها إلى ثلاثة آلاف سنة، وهي تحمل تجريدا وتبسيطا غير مسبوقين تعرف إليهما أصحاب المدرسة التجريدية الحديثة قبل نحو ستين سنة فقط. الثقافي استخدمت الحروفية العربية في لوحاتك، ومثلك فنانون تشكيليون كثر في الوطن العربي، هل كان الحرف مجرد حامل وساند للموضوع، وهل حقق الحرف للّوحة هوية إبداعية، وما مدى ما قدمه الحرف للّوحة في الساحات الفنية العالمية، أم إنه كان محط إعجاب لا أكثر؟
- الحرف إرث، وإن أجمل أبجدية على الإطلاق هي الحرف العربي، لأن فيه موسيقى ورشاقة وإنسيابية حروفية غير متوافرة في أي من أبجديات الشعوب الأخرى، وبالحرف العربي يمكن أن ترسم لوحات وفضاءات كاملة، كونه حرفا مطواعا. لقد كان الحرف في اللوحة هو الهوية، والذين قدموا الحروفية بصياغات مختلفة كثر، وكان الاختلاف في الطرق مفيدا للفن العربي وهويته، حيث سوّق اللوحة عند أذواق مختلفة. والسؤال: لماذا ننكر جمالية الحرف العربي، وفي الفاتيكان قاعة طولها مئات الأمتار هي عن الخط العربي؟ ألا يحق لنا أن نفتخر ونهتم بما لدينا؟!. الثقافي بعد مسيرة فنية زاخرة بالإنجاز والبحث، كيف وجدت تفاعل المتلقي - الجمهور، مع لوحاتك؟ الثقافي ما أهمية البحث والتواصل والأسفار بالنسبة للفنان؟
- الثقافة والاطلاع إلى جانب الموهبة أمر في غاية الأهمية، لقد مارست الرسم نحو ستين سنة، وعندما أطلع على تقنية جديدة، أو أكتشف خامة ما، أو أتعرف على حضارة معينة، أشعر أنني أتعلم، وأنني للتو بدأت البحث. المطلوب من الفنان العربي أن يبحث في حضارات موجودة في بلده، وهي حضارات تضم كنوزا يمكن أن تشكل مصدرا بصريا غنيا ومجالا لإلهامه، ليقدم إبداعات جديدة، ولا يبقى حبيس التقليد. ومن حسن الحظ أنني أقيم في عمان، مدينتي، سليلة الحضارات، والتي تغمرني سكناها بالمحبة، وأحلم بتدوينها تشكيليا. الثقافي لماذا لا تلقى الأنماط الفنية الهجينة، مثل الفيديو آرت، والعمل الإنشائي والتركيبي، إقبالا من الجمهور؟
- الأساليب الجديدة مجرد موجات تطرأ على ساحة الفن، بحسب حاجات السوق والناس، وهي لا تدوم لأنها نتاج رغبة ملحة وسريعة، لكن اللوحة ستبقى مع المتلقي، لأنها إبداع يحمل التجريب ويحمل فكرة وصفات جمالية، ثم إن التعاطي مع فيديو آرت أو عمل تركيبي يحتاج إلى مكان وأجهزة ومعدات، مما يجع عملية التذوق أمرا معقدا. الثقافي بماذا تنشغل الآن، وهل تجهز لمشروع فني جديد؟
- أخطط لإقامة معرض للفنانة الفلسطينية الراحلة فاطمه محب، ضمن احتفالات القدس عاصمة للثقافة العربية 2009، حيث أمتلك عددا كبيرا من رسوماتها. والفنانة محب من أقدم الفنانات الفلسطينيات، كانت حضرت إلى الأردن، ورسمت هنا، وشاركت في معارض فنية، وقد درست الفن في مصر على نفقة الملك فاروق. الثقافي بيتك متحف تشكيلي. ما هو نصيب عمّان كمدينة من هذا البيت؟
- في بيتي وثقت للحركة التشكيلية عموما، والأردنية خصوصا. الوثائق واللوحات تشكل نواة متحف مصغر لعمّان يضم أعمالاً لرسامين ومصورين وخطاطين، وفيه تحضر الأمكنة والمنجزات الإبداعية المختلفة، حيث يرصد المدينة من جانب بصري فني. |