التشكيلي محمد ديوب يحاكي دمشق تجريدياً

المقاله تحت باب  مقالات
في 
27/01/2009 06:00 AM
GMT



 من ذاكرة حارات الشام الدمشقية وبيوتها العتيقة التي تحاور التاريخ وتحكي دروب وغبار الأزمنة تمر عليها ذكريات سنين من الاغتراب الإنساني؛ ومن وجوه نساء كتب الحزن على ملامحها معالم من المتاهات المُحيّرة في محطات العمر. 

 من هذا الخليط الممتزج بين المرأة المكان والمكان الكائن تظهر صور مخفية لعالم الوجود، عبر تجربة الفنان التشكيلي السوري محمد ديوب في معرضه «أطياف» ليكون العنوان مزيجاً بين التقمص الروحي لفنان عاش غربة عن أمكنته التي أحبها، وخطوط ريشة رسمت بدقة تفاصيل ما تبقى من ذاكرة أتعبتها السنين وأرّقها المشهد الوجودي بأكمله.لا تتخذ تجربة التشكيلي ديوب الجديدة خطوطاً تفترق عمّا قدمه في أعمال ومعارض سابقة؛ فمن «أحمر أسود» سارت التجربة عبر «دروب» لتصل إلى «ناس وبيوت» وفي هذا العام تتخذ من «أطياف» رحلة جديدة في التجريب بمختلف المدارس التشكيلية.

 ويمزج الفنان في «أطياف» بين التجريد باعتباره الأداة الأكثر تعبيراً عن خيالات النفس والانطباعية بأدواتها وتقنياتها اللونية، غير مبتعد في الوقت ذاته عن واقع كون المدينة الأقرب إلى قلبه «دمشق» قد أسدلت الستار عن سنة مضت كانت فيها «عاصمة الثقافة العربية» ليشير عبر اللون والرموز المغيبة في تفاصيل المكان أن الأمكنة لا ترصد فنياً بالتسجيل المباشر بل بأطيافها التي تبقى عالقة في الذاكرة.

 بين الرمز والمتخيل

 حول تجربته الجديدة يقول الفنان التشكيلي السوري محمد ديوب: «أكرس بهذا المعرض احتفالية من نوع خاص بدمشق أولاً كعاصمة للثقافة العربية من هنا من خلال إقامتي بأبوظبي التي أثرت أيضاً في أعمالي من خلال تماذج الأطياف القادمة من دمشق في ذاكرتي فكان هناك نوع من الرمزية التي ابتعدت بها تماماً عن التسجيلية، لأني أرى بأن الأمكنة لا تحمل حقيقتها عبر ما يظهر لنا من صور وأشكال خارجية.

بل أن أطيافها التي تبقى بالذاكرة هي الجوهر والحقيقة لتلك الأمكنة، وقد اشتغلت على فكرة وفلسفة «الأطياف» هذه بمعالجات لونية خاصة متأثرة بهواجسي البحثية سواء من حلال التقنية أو من خلال اكتشافات لونية جديدة.

 وليست دمشق هي الوحيدة التي قدمت «أطيافها» في هذا المعرض؛ بل كان هناك مدن وأماكن أخرى بقيت أطيافها في ذاكرتي وكلما حاولت رسم أشياء لها علاقة بالبيوت والمكان تتراءى لي تلك الأطياف القادمة منها.
 
وأهم هذه الأماكن هي «معلولا» التي أعرفها قديماً والتي لم أزرها منذ أن أقمت بها معسكراً فنياً في صيف 82 وأحاول أن أبقي على ما شاهدته من جمالياتها لأنها الآن بالتأكيد قد تغيرت كثيراً وهاجمتها كما هو حال الأماكن الجميلة تلك المكعبات الإسمنتية التي لا تفعل سوى تشويه المكان».

 سحر الشرق
 
في حالة من العشق بين الفنان والمكان ترتسم تفاصيل تلك الجدران والأزقة عبر اللون بدرجة أساس؛ غير خاضعة لشروط الهندسة والصورة المباشرة، وكأن بعض اللوحات تصدح حين تراها بصوت مجنون ليلى «مررتُ على الديار ديار ليلى... أُقبل ذا الجدار وذا الجدارا، وما حب الديار شغفن قلبي..
 ولكن حب من سكن الديارا، يقول ديوب في ذلك: «أردت أن أوجد في أعمالي نوع من الدهشة بالإضافة إلى التعبير عن حالة الحب والتعلق بالمكان لما له من آثار نفسية، وأخص هنا البيوت القديمة التي تأخذني عبر سحرها الخاص فأجد نفسي وإن غادرتها أسير طيفها حتى على قماش اللوحة، إنها نوع من حالة وجد بين الإنسان والمكان وبالتأكيد هو سحر خاص لا يمتلكه إلا الشرق».
 

الكائن الأجمل
 

ولئن كانت الأمكنة ـ أو ما تبقى منها في ذاكرة محمد ديوب التشكيلي والمصور الفوتوغرافي والشاعر ـ تعلن عن نفسها بصورة رمزية تقترب من تقديس غبار الأزمنة العالقة في جدرانها.
 فأن الوجوه التي تمتزج بها تختزل الكائن وتحولاته المختلفة عبر «المرأة» التي رأى فيها الفنان عالماً ـ بل وجوداً ـ متكاملاً يجمع كل تناقضات الدنيا بأحزانها وكدرها وإرهاقها وأفراحها ولحظات سعادتها المسروقة من عمر الزمن، فكانت وجوه النساء حزينة تحمل سر غموض يبتعد عن معرفة الحكماء.
 

وقد خصص الفنان قاعة خاصة لتلك «الوجوه» ويقول في ذلك: «لم أترك في تجربة «أطياف» معالجة الوجوه والتي أعتبرها أساسية في تجربتي الفنية والتي لا أستطيع التخلي عنها.
 وإن كانت قليلة في هذا المعرض فقد طغت رمزية المكان على تلك الوجوه والتي خصصت لها قاعة خاصة، وقاعة أخرى للتجارب القديمة لربط ما كنت عليه وعلاقته بالتجربة الجديدة، فمعرض أطياف في الغاف غاليري هو ثمرة تجربة جديدة كلياً وتعرض فيه الأعمال الجديدة لأول مرة، عدا بعض الأعمال القديمة التي رأيت أنها امتداد طبيعي لهذا المعرض».