ذهنية السؤال أكبر من دهشة الإبداع

المقاله تحت باب  مقالات
في 
21/04/2008 06:00 AM
GMT



ما الذي يريده فنان ما بعد اللوحة من جمهوره؟ سؤال يتكرر في كل معرض. فالدهشة التي يتركها عمل التجهيز في عين المشاهد، للوهلة الأولى، قد تكون طبيعية، بسبب جدة هذا النوع من المعارض عندنا. إلا أنها دهشة السؤال، وليست بالضرورة دهشة الإعجاب، فالمشاهد الذي يُدهش في كل معرض تجهيز، أو يدخل إليه حاملاً علامات الدهشة على وجهه سلفاً، قد يعيد النظر بدهشته، أو يستمر بها، تبعاً لمستوى المعرض، أو تبعاً للأسلوب الذي يتبعه الفنان، فهناك من يقدم مادة سهلة على الفهم، وآخر يقدم مادة مليئة بالألغاز ومفتوحة على الكثير من التأويلات، من دون أن تعني السهولة أو التلغيز فناً أو عكسه.
قد تكون جمعية «أشكال ألوان» هي التي عرّفت المشاهد اللبناني أكثر من سواها على فن ما بعد اللوحة، الذي يعتبر اليوم من آخر إبداعات الفن التشكيلي، أو الشكل الجديد الذي يتلاءم مع تداخل الفنون وتزاوجها واستخدام أكثر من فن في عمل واحد، في سبيل البحث عن مشهدية جديدة. فمنذ باشرت عملها، بدأت الجمعية تبحث، بشخص مديرتها كريستين طعمة، عن الأعمال الجديدة في العالم، مطعّمة ببعض الأعمال العربية واللبنانية، في سبيل تحقيق التثاقف الضروري بين لبنان والعالم، والوصول، وبالتالي تحقيق التواصل مع الحداثة الفنية، على أرض الواقع، لا من خلال وسائل الإعلام والاتصال فقط.


من ملصقات زينة معاصري في «كوكب الاكتشاف»

«أشغال داخلية» هو الإسم أو البرنامج الجديد، الذي تقدم من خلاله «أشكال ألوان» ورشة عمل، تبدأ بالمعارض، وتتتابع ندوات وعروض فيديو وأداء مسرحياً وراقصاً. وفي هذا العام كان «الفن التشكيلي» (بأشكاله الجديدة) أكثر حضوراً من السنوات السابقة، إذ تم بمشاركة 13 فناناً لبنانياً وعربياً وأجنبياً، ما جعلنا نقف أمام عدد لا بأس به من أنواع التجهيز وسواه التي تقام في العالم، وحفزنا على التمعن أكثر في طبيعة هذا الفن ومدى تقبله في لبنان.

المتجول بين المعارض التي أقيمت في أماكن أربعة: سنتر استرال، غاليري أجيال، كوكب الاكتشاف وغاليري صفير ـ زملر، يشعر بالفروق الشاسعة بين عمل وآخر. حتى أن بعضها لا يحسب في إطار التجهيز، مثل معرض الملصق السياسي في الحرب الأهلية اللبنانية الذي حمل عنوان «ملامح النزاع»، وهو مشروع إعلامي يعتمد نشر 300 ملصق من ملصقات الحرب، في كتاب يصدر هذا العام في لندن، وعبر موقع خاص به في الإنترنت العام المقبل، مع تصنيف الملصقات والتعليق عليها. استوجب المعرض الذي أقامته زينة معاصري جهداً كبيراً لجمع الملصقات من ثلاثين حزباً وجهة سياسية نشطت في خلال الحرب الأهلية، وقد تم تصنيفها حسب المواضيع، وحسب تواريخ إصدارها، وهي تختصر الحرب الأهلية، بحيث يستطيع المشاهد أن يرى محطات الحرب بفصائلها وشعاراتها وزعمائها وشهدائها. وفي غرفة الأرشيف الخاصة بالمعرض يمكن الإطلاع على 700 ملصق، بالإضافة إلى المزيد من المعلومات عن مرحلة الحرب ومنشوراتها، لا سيما في الصحف الخاصة بالأحزاب وفي الصحف العامة.

ربما يمكننا وضع هذا المعرض في إطار التجهيز لمشروع إصدار كتاب وموقع إلكتروني. فهو بيان تفصيلي لمشروع بكل عدّته البصرية والكتابية. هو، إذاً، معرض سهل على الفهم، وليست فيه أحجيات، ولا يحتمل تأويلات. وهو معرض جديد من حيث تفاصيله الشكلية، من دون أن ينسجم، بالضرورة، مع المعارض الأخرى في المهرجان، التي تتضمن آلية مختلفة في تقنيات العرض وأسلوبه. هو مثلاً يتناقض، من هذه الناحية، مع ما قدمه وليد صادق في عمله (غاليري صفير ـ زملر) الذي وضعنا فيه أمام رزمتين من ألواح كرتونية للطباعة، رسمت على واحدة منها عينان أو دائرتان، وكتبت عبارة «أن نتعلم كيف نرى أقل» فكانت عنوان العرض، مع توصية أن نغمض عيناً ونرى بأخرى.

المسافة بعيدة بين عمل يُقرأ بكل تفاصيله، من الوهلة الأولى، وآخر يمتلك كل مواصفات اللغز، بل هو مركب على هذا الأساس. الأول يوضح مشروعاً ويقدم خطواته التأسيسية، والثاني يبني العمل على حلم أو شردة فكر أو عبرة لمن يعتبر. هذا التناقض موجود أيضاً، وإن بدرجة أقل، بين معرض الفلسطيني خليل رباح الذي حمل عنوان «الخطوط الجوية للولايات المتحدة الفلسطينية»، وعمل إيميلي جاسر الذي هو عبارة عن مادة لمشروع فيلم عن الفلسطيني وائل زعيتر الذي اغتاله الموساد الإسرائيلي العام 1972 في إحدى ساحات روما، فكان أول ضحية اغتيال في أوروبا يرتكبها الموساد ضد مثقفين وفنانين ودبلوماسيين فلسطينيين.
 
 تعرض الجاسر سيرة زعيتر بكل تفاصيلها، بالصور، قبل الاغتيال وبعده، قبل روما وبعدها. هي سيرة مصورة لا بد منها كمرتكز أساس لفيلم عن شهيد معروف. هي مادة عرض واضحة نقرأها فصلاً فصلاً، كمادة مكتوبة، ونراها مصورة فوتوغرافياً وبالفيديو، مع تسجيلات صوتية لزعيتر. تقابلها مادة رباح التي تغدرنا، فلا ننتبه أننا أمام معرض في الأساس. مررنا بجانب الصالة التي يعرض فيها خليل رباح عمله، فظننا أنه مكتب سفريات. تابعنا وسألنا عن مكان المعرض في سنتر استرال، فأهدونا إلى «المكتب» نفسه، وانتبهنا حينها إلى جملة «الخطوط الفلسطينية» الملتبسة. يبدأ الالتباس بالشكل، هو معرض أم مكتب سفريات في داخله مجسم طائرة أنيقة، وساعات معلقة على الحائط بتواريخ مزيفة، وحافلة ركاب مركونة إلى جانب الرصيف لنقل المسافرين. إنه الوهم مجسداً بأدوات الواقع. الوهم يبدأ بالتسمية «الولايات المتحدة الفلسطينية» التي تتعملق لتجاري تسمية الولايات المتحدة الأميركية، وبشكل المكتب الأنيق، والحافلة المستعدة للتحرك بين المكتب ومطار بيروت. لعبة موفقة لخليل رباح في بناء جسر السخرية هذا، الذي يمتد من واقع مأسوي مهزوم، إلى حالة موهومة «مرموقة».

تناقض هنا، في الموضوع الفلسطيني، نحن أمام مفارقة أخرى في المضمون، الانغماس في الواقع وتبني مشروع فيلم عن أحلام مناضل، من جهة، والسخرية من الواقع الفلسطيني بالقفز فوقه والقهقهة عليه، من جهة أخرى.
الاختلاف البارز في الموضوع الواحد هذا، هو نفسه موجود في الموضوعات الأخرى، وإن كانت الأعمال المعروضة لا تتخذ لنفسها هذا السياق التناقضي. إلا أن التجول بين المعروضات تجعلنا نوزعها على فئات متقابلة وفئات متقاربة. الأميركي، ذو الجذور اليهودية العراقية، مايكل راكوفيتس، قدم مجسمات مصغرة لمنحوتات أثرية عراقية مسروقة من المتاحف العراقية، صنعها بواسطة علب أغذية، وأصر على لفها بقصاصات ورقية عربية في غالبيتها، وعرضها على طاولة خشبية. وهذا جزء من مشروع يهدف إلى توثيق سبعة آلاف منحوتة مسروقة، لم ينفذ منها حتى الآن سوى سبعين مجسماً.
جلال توفيق يقدم في عرضه ملصقات أفلام وأغلفة كتب، يريدها أن تكون «مفاهيمية»، فهي ليست مجرد إعلان أو عنوان، هي أغلفة وملصقات توحي بما هو في الفيلم أو الكتاب، وربما بهذه الكلمات القليلة والصور القليلة تقدم مادة نقدية، لكن من طريق الفن. هو إذاً، يحيل المادة الفنية مادة نقدية، وإذا كانت المادة الفنية كاللوحة وسواها يمكن أن تكون في الأساس مادة نقدية، فإن توفيق يعمل على تحويل المادة الجمالية المعفاة من هذه المهمة إلى مادة نقدية أيضاً، أو تحويل المادة الثانوية إلى مادة رئيسة.

مروان رشماوي لا يقدم مشروعاً لبناء ينوي إقامته، بل العكس، يجسد تطورات أو ينقل متغيرات في مبنى بيروتي تحمل أمزجة سكانه و«فنونهم» في 45 سنة مضت. يجسم رشماوي المبنى بالجص والألومينيوم والزجاج والقماش، باحثاً في أثر الحياة المدنية على بيئة المدينة وشكلها.
الذاكرة الفلسطينية
في زاوية زياد عنتر تجهيز فيديو يصوّر أصابع تعزف مقطوعة لموزار على بيانو كهربائي، وآخر يصوّر فيه لعبة شاب في القفز على الحبل، مطبقاً قواعد تبدأ بخلع السترة وتنتهي بالتعري الكامل الذي تنطفئ بعده الشاشة. فكرتان تقومان على جماليات شديدة التبسيط. تجهيز فيديو آخر لوائل شوقي بعنوان «بنت جبيل 2008»، يرصد ما تبقى من زوايا أبنية قديمة، يدقق في مساحاتها وأشكالها والظلال التي تتحرك فوقها، مرفقاً ذلك بأصوات العصافير. عمل يستحضر العدوان الإسرائيلي العام 2006 على بنت جبيل وسواها، من خلال تفصيل بسيط. في الإطار نفسه، ومن خلال معتقلي الخيام تعمل جوانا حاجي توما وخليل جريج على تقديم فيلمين يوثق أولهما شهادات ستة أسرى، خرجوا من الأسر قبل العام ,2000 عام التحرير، يتحدثون عن ظروف الأسر والاعتقال والمقاومة داخل المعتقل، وابتكار وسائل جديدة تساهم في استمرار الحياة بأشكال أخرى. ويوثق الثاني شهادات المعتقلين الستة أنفسهم التي ينتقدون فيها إهمال تحويل المعتقل إلى متحف والقضاء على الكثير من آثار الذاكرة. استطاعت الكاميرا الدخول إلى عمق أحاسيس المعتقلين، ونبش ما لم تستطعه الصحف والريبورتاجات التلفزيونية.
في جهة أخرى من المعرض مجموعة صور «غنائم حرب»، هي عبارة عن مركبات عسكرية إسرائيلية بقيت معروضة في معتقل الخيام كذكرى لهزيمة إسرائيل، إلى أن جاء عدوان تموز لينتقم من هذه الذكرى، فيضرب الآليات ويمزقها شر تمزيق. تجهيز الفيديو والصور المعروضة يعملان على مسألة محو الذاكرة بلغة نقدية تستحق الاهتمام، فالمقاومون كانوا مقْنِعين في الكلام على مقاومتهم وضرورتها، ومقنعين في نقد ما جرى من تخريب للذاكرة في معتقل الخيام من قبل المشرفين عليه من جهة، ومن قبل العدو من جهة أخرى. فقد طاله إهمال الصديق وملاحقة العدو في آن معاً.
«ألبوم» كمال الجعفري تجهيز آخر فيه صور من الذاكرة الفلسطينية، نوافذ وشرفات في بلدة الرملة معلقة بين الذكرى الستين للنكبة والخوف المحدق بما تبقى من التاريخ الفلسطيني. فالألبوم يتحول إلى منزل، والإثنان سيان في الصور الماثلة لتحريك الذاكرة، والوقوف أمام الخوف من محوها.
المنزل المحاط بالخوف هو أيضاً موضوع العرض المقدم من فلانكا هورفات وتيم إيتشيلز، بعنوان «إسقاط منزل». معرض صور ورسوم يتوالى إرسالها عبر الفاكس، فتجعل المعرض ينمو يوماً بعد يوم، ليصل تعداده إلى مئة عمل ورقي. أفكار واقعية مبتكرة، وأحيانا كاريكاتورية بهلوانية تخييلية، كأن يوضع المنزل بين الأسنان، ويصبح عرضة للعب به، بل تحويله إلى مكان مهدد بمخاطر تأتيه من كل ناحية.
أسئلة الدهشة
ليس أكثر عرضة لهذا الخطر والهشاشة، وعرضة لمشاريع الهدم المتكرر والسهل من منزل الفلسطيني. فهذا البناء الذي يحتوي على تعب سنين وذاكرة أجيال تسقطه أسنان جرافة إسرائيلية أو انفجار صاروخ إسرائيلي. فالموضوع الفلسطيني، كما لاحظنا، حاضر بقوة في معارض «أشغال داخلية 4»، وإذا ضممنا إليه المواضيع المنشغلة بالعراق ولبنان، فهمنا أن التركيز في هذه المعارض على المادة المأسوية، وأن الفنانين يستلهمون معظم موضوعاتهم هنا من الأوضاع الساخنة، والأحداث الفارضة نفسها. بمعنى آخر يمكننا القول إن المعارض هذه انشغلت بالموضوعي أكثر من الذاتي، بعكس ما هو سائد اليوم في اللوحة أو المنحوتة التقليدية، ذلك أن التجريد إذا وجد في أعمال التجهيز هنا، فهو في المسافة التي تفصل بين الواقع والوهم.
وبعد، صحيح أن فن ما بعد اللوحة حديث ويسود الكثير من أعمال جيل التشكيليين الشبان، إلا أن الجدة يمكن أن تكون، أحياناً، في الشكل فقط، أما من الناحية الفنية الإبداعية، فيمكن اعتبار الكثير من تلك الأعمال، رغم شكلها الجديد، تقليدية، بل مغرقة في التقليد. لذا تحتاج أعمال ما بعد اللوحة عندنا إلى أسئلة تُخرج بعضها من إطار الدهشة، وبالتالي الجِدة الممهورة بها، في حين ترتقي أخرى إلى مستوى الإبداع الابتكاري الذي يستفيد من تطور الحياة ويلحق، أو يسبق، بعض فنونها... على أن العدوى من الفن الوافد لا تحقق بالضرورة فناً.