من عالم الطبيعة الصامتة في البدايات منذ أواخر الخمسينات، إلى عالم التعبيرية الصارخة كما عبرت عنها الوجوه منذ السبعينات، تجربة تمتد على خمسين عاما لفنان غادر بلده سورية شابا، فقصد ألمانيا التي استقر ويستقر فيها حتى اليوم، حاملا معه جذوره العربية من موروث غني بالرموز، وطبيعة ساحرة حمل منها مروجها وسهولها وبيوتها. الفنان مروان قصاب باشي الذي نحاوره هنا يحمل اليوم الثقافتين العربية والغربية، ويتنقل بين اللوحة اللونية والغرافيكية، لكنه لا يرسم سوى الوجه الإنساني، الوجه الذي يعبر عنده عن عمق علاقته بتراب أرضه، فتميل غالبا إلى الألوان الترابية. يرسم عددا هائلا من الوجوه لا تشابه بينها، لكنها تتناغم وترسم إيقاعا موسيقيا من الأسود الحزين.
عن استغراقه في رسم الوجوه منذ ثلاثين عاما، يقول قصاب باشي: أتصور أن الرؤوس والوجوه هي قصتي الذاتية على المستوى الفني، فمنذ بداية السبعينات حتى مطلع الثمانينات اشتغلت على الرأس، ثم جاءت تجربة الدمية التي استمرت فترة، عدت بعدها إلى الوجوه.
الأمر بالنسبة لي يشبه حياة النبتة التي تمر في مراحل من الطفولة والصبا الأول والثاني، حتى تصبح شجرة باسقة بكل ما يعتريها من عناصر الزمن والطبيعة من مطر ورياح وسواها، ثم إن التجارب تكتشف مع الوقت في العادة، فليس ثمة حرفية أو مهنية متعمدة، بل الأمر يتعلق بالإبداع والمصداقية، فأنا أعتبر المصداقية هي أهم ما يعطي اللوحة مضمونها الجديد من خلال الحدث الجديد الذي تتناوله، وقد أبقى شهورا في بعض الأحيان بانتظار لحظة الهذيان والحدس بحدث معين، ومن يرى أعمالي خصوصا في السنوات الأخيرة يعجب من العناصر الجديدة التي تحدث للرأس، ففي مقابل مسحة الحزن والشعور المأساوي يمكنك أن ترى في اللوحة لونا من الفرح أيضا، فقناة الإبداع تتغير مع الوقت، حيث يتم تحويل الفكرة ذات الطابع الأدبي إلى عمل فني وهذه مشكلة يواجهها كثير من الفنانين، خصوصا في الوطن العربي، حيث يبدو الطابع الأدبي ملازما للعمل الفني أو طاغيا عليه أحيانا، لعدم معرفة الأصول الفنية.
أدبية الرسم
وعن كيفية التوفيق بين الهروب من أدبية العمل وبين قدر من التجريد تتسم به لوحته، رغم حضور التعبير فيها، يجيب: غالبية أعمالي مستقاة من العالم المحيط بي، لذلك فهي قادرة على التأثير بضمير الرائي إليها، والمسألة الأساسية هي كيفية تحويل الرؤية الخاصة إلى قواعد التصوير والفن، أما ما تقوله عن التجريد في عملي فهو كلام خطير لأنني أعتقد أن عملي ليس تجريدا بالمعنى السائد للتجريدية، وأنا أنطلق من واقعي الخاص وأسعى إلى تحويل الطبيعة العامة إلى طبيعة خاصة مرتبطة بضميري الفني، فالتجريد قد يفهم أنه العمل غير المفهوم، لكني أفهم التجريد أنه غموض موجود في كل شيء، في اللوحة كما في الزهرة، هناك دائما سر يجب أن تكتشفه في اللوحة، فعندما ترى عملا لفنان كبير تجد فيه سرا يجعله ساحرا، وهناك دائما عمق آخر غير ما نراه على السطح.
وبالنسبة لي أنا أظل أعمل للوصول إلى ما أسميته ''الحدث''، عبر تصعيد العمل إلى أقصى مستوى إنساني، لأن في كل عمل حركة مستمرة. أحد أصدقائي وجامعي لوحاتي وضع في غرفته لوحة مدة أربع سنوات، وحين أراد استبدالها بلوحة أخرى لي اكتشف أنه لم يكن يراها فتركها. لوحتي لا تكشف أسرارها بسهولة، وقد اعتبر بعض النقاد الغربيين أن الأمر مرتبط بمصادري المتمثلة في الحضارة الشرقية وما فيها من سحر. فحين تنظر إلى لوحاتي المشاركة في هذا المعرض وهي عبارة عن تسعة وتسعين رأسا تجد كلا منها يختلف عن الآخر، يساعدني على ذلك الإرث العربي الإسلامي الذي أتكئ عليه.
أما لماذا تغيب من ''وجوهه'' الملامح، ويبدو الوجه مشوها، أو منزاحا عن طبيعته، فيقول: في الستينات كنت أرسم وجوها ورؤوسا كبيرة، لكنني منذ السبعينات بدأت أرسم الوجه لا ليكون مجرد وجه، بل ليجسد ذكريات عن الوطن بسهوله وجباله والحياة فيه، من ذكريات الطفولة على أطراف دمشق، حيث تحولت الطبيعة بترابها الأحمر والبني والسماء الزرقاء إلى آفاق لا نهائية. في الثمانينات صار الرأس يبدو متطلعا نحو السماء، ومع تغير الزمن بات الرأس رمزا للحب.
ويضيف: يجب أن تكون لي علاقة راهنة مع ما أرسم سواء كان تفاحة أو امرأة أو غيرهما، وأنا بعيد عن هذه الطبيعة، فمنذ وصولي برلين حلت المدينة مكان الطبيعة، لكن الأرض ظلت في وجداني فتحولت إلى وجه أو رأس.
حديث الألوان
وحول سبب التعدد في تجربة اللون والقماش حيث الألوان المتداخلة، وتجربة الحفر على المعدن (الغرافيك) حيث الرمادي والأسود، يوضح قصاب باشي: طبعا من المعروف أن الحفر يتلازم مع الأسود وأنا لا أحب استخدام اللون مع الحفر، بل أفضل اللون الطبيعي، فهو يمنح الشعور بوجود حروف يمكن أن تقرأ ببساطة. في الرسم الشيء الأساسي هو اللون، وأنا غالبا ما أعمل على اللون البني ودرجاته، وأحاول الابتعاد عن الأحمر مثلا، فألواني تأتي من الطبيعة، هناك الفستقي والكهرماني.
وبتذكيره بلوحته لوجه منيف الرزاز حيث كان الأحمر ساطعا فيها، يقول: صحيح، وكذلك الأمر في لوحة بدر شاكر السياب، الأحمر في لوحة الرزاز كان كما لو أنه نبوءة بمصيره، فالوجه هنا لم يكن ''بورتريه'' بل عالم كامل، لذلك كان الجزء السفلي من اللوحة شبه مقصلة. وكذلك الأمر مع لوحة السياب حيث فوق الرأس أحشاء إنسان، ما يجعل العمل عملا دراميا أو تراجيديا حتى ومسكونا بالتوتر.
وكيف يتخذ قراره في شكل تنفيذ العمل الفني يجيب: بالنسبة لي ليس الأمر قرارا، بل بحث عن الإمكانيات التي يمنحها هذا الشكل أو ذاك، وأعتبر أن الغرافيك يمنحني إمكانيات أكبر من القماش واللون، فالحفر على النحاس يشبع لدي مشاعر الامتلاء أكثر مما تعمل اللوحة اللونية، كما أن المعدن يتحمل مشاعر التمرد والقسوة التي أشعر بها أثناء العمل، وهذا ما لا يتحمله الورق، لذا تجد تنوعا في أعمالي يعبر عن رغبة البحث عن الوجه الذي أريد الورق يحتاج إلى رقة فأستخدمه للمواضيع الناعمة، وهي تجربة مختلفة حتى عن الرسم على القماش. والأشياء تكمل بعضها.
شبق غامر
ثم ألم يشبع الفنان من هذه الوجوه، لكي يتحول إلى موضوع وشكل آخرين، فيجيب: الشبع بالنسبة لي يعني النهاية، وأنا لم أشبع بعد، فالاستمرار هو نتيجة الشبق الغامر لخلق الجديد، وحين ينتهي هذا الشبق فستنتهي القدرة على الخلق والإبداع والتجديد، أنا أريد أن أشعر أنني أستطيع بالفكر والحس متابعة هذا العمل. هناك مجموعة من الرموز تتجمع في سلسلة يمكن أن تشاهدها كما لو كانت فيلما سينمائيا، هي فصول متسلسلة من بداية التجربة حتى اليوم، فهذه الوجوه ترسم سيرتي ومسيرتي، هناك تكرار طبعا لكنه في سياق التجربة نفسها، وكما نعلم هناك فرق بين الرسام الموهوب والطبيعي وبين المحترف المهني.
وفي تجارب رسم الوجوه هل يختلف كل فنان عن الآخر يقول: لست مطلعا على التجارب السورية بشكل جيد، فأنا ابن تجربتي في ألمانيا، فأنا منذ خمسين عاما اتخذت الرأس ثيمة وموضوعا لعملي، ولا تستطيع ربطي بالتجربة السورية، رغم أن جذوري سورية وتظل تؤثر في تجربتي كما قلت.
ويتابع: في كتابه ''رحلة الحياة والفن'' الذي جمع بعض أعمالي ودراسة للروائي الراحل عبد الرحمن منيف يصفني منيف بالفنان العنيد، فهناك إصرار على هذا الموضوع وهذه الثيمة، والثمن كبير من المعاناة والتفكير، لذا فعدد أعمالي جد قليل. ومما يقوله النقاد في المتاحف التي أعرض فيها يكتبون عن الفرادة في تجربتي المستمرة والمتجددة منذ خمسين عاما، هذه نتيجة تركيبتي الخاصة.
صدفة العدد
وعن عمله الكبير (99 وجها) المشارك في معرض ''الحداثة السورية: 9 رواد'' وكيف تشكلت هذه التجربة، وما وراءها يقول: بدأت اللوحة بفكرة حفر خمس عشرة قطعة على النحاس وكتابة نصوص مرافقة لها، وأن تمثل الرقصة المولوية، وفجأة أخذت تكبر حتى وصلت حوالي مائة وثلاثين قطعة، عندها اخترت تسعا وتسعين قطعة وجمعتها معا.
وربما جاء هذا العدد بالصدفة، وربما وبصورة لاشعورية ترتبط بأسماء الله الحسنى، كما أن هذا العدد جميل، والمسألة ليست تدينا، بل هي مرتبطة بالروحانيات بقدر ارتباطها بالبعد الحضاري.
وعما إذا كان الفن يستطيع أن يفتح آفاقا على الروحانيات والعالم المجرد والمطلق، يجيب: هناك قدرات روحانية في الفن، ولكن بنماذج مختلفة، فليس كل فنان عظيم قادر على الاتصال بهذه الروحانيات، فثمة صعود نفسي وعاطفي لكنه لا يعني الارتباط الديني.
وبالنسبة للأعمال الزيتية والمائية هناك إيقاعات تتناغم على السطوح، الإيقاعات اللونية التي تمنح التوتر والتصعيد والترابط من خلال علاقة الأشكال بالألوان.
سيرة فنان مهاجر
سوري الأصل، ألماني الجنسية، من مواليد دمشق عام 1934 درس الفن في المعهد العالي للفنون الجميلة في برلين، وعين أستاذا للتصوير الزيتي في المعهد ما بين عامي 1977 ـ ،1980 يعرض بشكل متواصل في مدن الفن الكبرى. أصدرت له صالة اتاسي كتابا مميزا عن تجربته يقع في 235 صفحة من القطع الكبير ويتضمن مجموعة واسعة من صور لوحاته تعطي فكرة واضحة عن مراحل تطور تجربته منذ أواسط الخمسينات حتى التسعينات، كما يحتوي على مجموعة من الصور الفوتوغرافية بالأسود والأبيض ملتقطة للفنان في جميع مراحل حياته (مع أسرته ورفاقه ولقطات له في معارضه الهامة، إضافة لاحتوائه على نص عربي مطول بقلم الكاتب الراحل عبد الرحمن منيف).
|