... ارسل الى صديق  ... نسخة للطباعه ...اضف الى المفضله Bookmark and Share

 

معارض تشكيلية

 

 

 

 
 
   
حفاوة لونيّة بنبض المدينة ومزاجها المتقلّب

حسين بن حمزة

تاريخ النشر       01/07/2008 06:00 AM



المدينة وحياتها اليومية خيار أساسي في لوحته، تشحن مخيلته بمواد ووضعيات واقتراحات جديدة. لقد توصّل هذا الفنّان الرائد إلى تسوية تشكيلية مع الواقع، فإذا بالمشهد ينتقل إلى اللوحة بإيعاز تجريدي مبطّن
لا يحتاج زوار معرض حسن جوني (1946) إلى وقت طويل، كي يُدركوا أنهم أمام رسام ذي نبرة تشكيلية خاصة. مصطلح «النبرة» أو «الصوت الخاص» غير شائع في نقد تجارب الرسامين أو وصفها. المصطلح متداول أكثر لدى الشعراء ونقادهم. أعمال حسن جوني الجديدة في «غاليري ألوان» تدفعنا إلى جلب هذا المصطلح إلى حيّز الرسم.
اهتداء أي مبدع إلى نبرته يثير نوعاً من الثقة والحوار المتبادل بينه وبين شغله. يكفُّ هذا الشغل عن بثّ ذبذبات متناقض
ة ومحيّرة تجاه المتلقي. هذه الثقة، المتأتية من الموهبة الممزوجة بالممارسة الذكية التي هي سرّ خاص بين الرسام ولوحته، تخلق ثقة أخرى لدى مشاهدي أعماله. الثقة الأولى تؤمن مسالك الرسام إلى فنه، وتُصالحه معه، بينما الثانية تجعل عملية التلقي والمشاهدة سلسة وعميقة وغير معرّضة لأي سوء فهم.
لن تكون هناك مبالغة في القول إنّ المشاهد يستطيع العثور على «نبرة» حسن جوني في أي لوحة من زيتياته الـ48 التي تمثل نتاجه في العامين الأخيرين. ثمة أسلوبية شديدة الاحتراف في وضع اللون على القماش، أو مزاج منفرد في تأليف عناصر اللوحة، أو مجرد ثيمة معينة تتكرر، بلا إملال، في عمله... هذه بعض الإشارات والدلالات التي تسهم في صنع «هوية» ما للوحة هذا الرسام الذي درس الفنّ في إسبانيا لا في إيطاليا أو فرنسا، بخلاف معظم من سبقوه وجايلوه. نشاهد ما يرسمه ونقول: هذه لوحة لحسن جوني، كما لو أننا نعيد غرضاً لصاحبه. صحيح أن لوحته ــــ كحال أي رسام آخر ــــ مؤلفة من ممتلكات بصرية شخصية، ومن استثمارات تشكيلية متنوعة... لكنها في النهاية تصنع مزيجاً يُذكرنا به وينتمي إليه.
لنأخذ المشهد المديني كمثال حيوي في شغل حسن جوني. المقهى. سلوكيات رواد المقاهي في تزجية أوقاتهم. الطاولات والكراسي. الجريدة التي تحضر لكي تحصر معظم هؤلاء في خانة متعاطي الثقافة والشأن العام. إضافة إلى المقهى، نجد بشراً يستريحون على مقعد في كورنيش البحر، آخرين في الشارع محتمين من الشتاء بمظلات... المدينة وحياتها اليومية خيار أساسي في صنع نبرة اللوحة وتظهير خصوصيتها لدى حسن جوني. ما شاهدناه بكثافة في معارض وأعمال سابقة يحضر بالكثافة نفسها في معرضه الحالي. المدينة جزء من إيقاعه، إنها تمدّ مخيلته بمواد ووضعيات واقتراحات جديدة. حتى في أحاديثه وحواراته، يصرّ هذا الرسام الذي ولد في حي زقاق البلاط البيروتي (ثمة لوحة بهذا الاسم في المعرض) على إيجاد روابط وعلاقات بين ممارسته التشكيلية واحتضان المدينة لهذه الممارسة. الإصغاء إلى نبض المدينة وتقلباتها وأحوالها هو أحد احتياطيات مفكرته اللونية.
حتى حين يذهب إلى الريف، يحاول جوني أن يلتقط حياة الناس هناك. الطبيعة تصطحب معها بشراً وبيوتاً وسقوف قرميد وحقولاً وحصّادين إلى لوحاته... الطبيعة هنا غير برية وغير متروكة لطبيعتها. إنها مخترقة بحيوات صغيرة تتناسب مع بيئتها. كأن حسن جوني يفتش في قلب الريف والطبيعة عن حركة البشر وتفاصيل عيشهم. كأن المتخيل المديني يعثر على نفسه هناك بطبعة ريفية مبسّطة.
حضور الأشخاص في لوحات جوني يدفعنا للحديث عن سمة أخرى تميز شغله. لقد توصّل هذا الرسام إلى تسوية تشكيلية بين واقعية ما يشاهده، وضرورة تخلّي تلك الواقعية عن جزء كبير من ثقلها الواقعي لمصلحة التجريد. ما نراه هو انتقال الواقع إلى اللوحة بإيعاز تجريدي مبطّن. الوجوه ممحوّة الملامح. البشر يتلذّذون بحضورهم المغفل في لوحات جوني. وهذا ما يجعلهم مدينيين، أو يجعلهم يظهرون بالطريقة التي يرغبون بأن يظهروا بها في الواقع: مستمتعين بفردياتهم، وذائبين في الجموع والحشود.
كل واحدة من هذه السمات والمكوّنات تلعب دوراً في صياغة «توقيع» حسن جوني على اللوحة. ولكن هذا التوقيع لا يحظى بحضوره القوي إلا داخل حساسية لونية موازية وحاضنة. اللون هو عنصر حيوي آخر في تجربة جوني. إنه أول ما يصلنا ونحن ندخل معرضه. الانطباع الأول هو انطباع لوني. لدى هذا الرسام حِيَلُهُ وفخاخه التي سرعان ما يقع متأملو لوحاته فيها. ثمة حفاوة لونية في المعرض. ثمة سرٌّ ما في النوعية والخلطة، يجعل الألوان تبدو كأنها حديثة العهد على القماش. إنها تلمع وتجذب وتفيض بالانفعال والبهجة، البهجة نفسها تنتقل بالعدوى إلى المشاهد. هناك شيء كالطرب يستخفّ اللوحات ويستخفّ مشاهديها. أعماله قائمة على هارمونيات لونية، كثيراً ما وُصفت أعماله على أنها «نشيد لوني»، وهي صفة تليق به فعلاً. حسن جوني ملوّن حقيقي، لا يزال مراهناً على اللون وحده، لم يُدخل تقنيات خارجية أو مستجدات طارئة ــــ بعضها مغوٍ ــــ على فن اللوحة. أراد الرجل أن يكون رساماً وظل كذلك. لعل هذا يعيدنا مجدداً إلى فكرة الثقة التي تجعل الحوار بين الرسام ولوحته، وبين لوحته ومشاهدها، أمراً ممكناً وجذاباً في آن واحد. تلك الثقة الناشئة من صداقة طويلة وحوار لا ينقطع مع اللون. بحسب ذلك، تبدو لوحة جوني كأنها منجزة بقوة الحرفة وحدها. ولكن هذا مجرد وهم خادع يتراءى على سطح اللوحة، بينما الممارسات والطموحات المضنية مدسوسة في أحشائها.


مقالات اخرى لــ  حسين بن حمزة

 

copyright © 2008  Al ZaQurA.com, Inc. All rights reserved 

 

 

Developed by
ENANA.COM