ثمانٍ وأربعون «قصيدة» لونية للفنان التشكيلي اللبناني المخضرم حسن جوني، في جديده الفني الذي يشكل مراحله الأخيرة الممتدة ما بين 2006 و 2008، في معرض يقيمه في غاليري ألوان (الصيفي فيليدج - بيروت) يعكس المسار التصاعدي لريشة انحازت طويلاً إلى التعبير عن آلام المعذبين والفقراء والكادحين والبسطاء، وصوّرت حكايات الهجرة والإقامة والحياة الشعبية في بيروت ببحرها وناسها ورواد مقاهيها، كما تغنت بمناظر القرى الجنوبية. فالتجارب الماضية ما زالت تحافظ على نبضها واستمرارها الاختباري كي تضع العين أمام موئلين اثنين عاش الفنان حياته في طلبهما: القرية والمدينة، وكلاهما يستدعي الآخر. هكذا تتراءى في لوحاته الزيتية (غالبيتها بأحجام كبيرة) مناظر من بوتقة الطبيعة جنباً إلى جنب موضوعات إنسانية مقطوفة من مجريات الحياة اليومية البيروتية.
مناظر لقرى تقف على أكتاف الجبال، ووهاد تغمرها أشجار الزيتون والتين وكروم العنب، وبيوت ترشح جدرانها بالنور. ليس في وسع الخطى إلا أن تجري مسرعة في الطرق المنحدرة إلى أعماق الوديان، حيث ينخفض الضباب شيئاً فشيئاً ليلف القرية مثل صرّة من أزاهير ملونة بين يدي الصخور. من الحدود اللامتناهية لبانورامية المنظر القروي إلى التركيب المدني - الاجتماعي. أشياء كثيرة تتبدل، لدى الانتقال من التأليف الحلزوني في الطبيعة الذي يُظهر الأعماق وأوهامها، إلى الأفقية التي ترنو إلى مسطح من بعدين يعطي الموضوع سعته وامتداده، أو الحركة التصاعدية التي تمنح التكوين المعماري لبيروت شعوراً بضخامة المكان وعلوه أو اضطرابه. لكن شيئاً لا يتغير بين المنظر القروي والمديني هو وجود تلك الضبابية التي يمسك بها حسن جوني وينفخها في فضاء اللوحة، فتتموّه الوجوه والقامات والأمكنة بضوء مرتعش بالظلال لكأن وجودها مهدد بالغياب والتلاشي. وفي جو أثيري يبعث على الزيغ والاضمحلال، يتحول الواقع وهماً كما تتحول الحكاية الشعبية إلى خيال شعري يحيّر العين ويثير النفس. لا يتنازل الفنان حسن جوني عن غنائيته اللونية لمصلحة التعبيرية، ولا يساوم على الجماليات الشكلانية مقابل إظهار أي قسوة درامية أو ألم أو جرح نازف. فهو يومئ إليها ولكن بشيء من الخفر والخيال والغلواء كي يصل إلى مبتغاة من المضامين العاطفية. بل من باب الإغراءات اللونية الحارة في تعارضها وانسجامها وتدفقها يتم الدخول إلى أبواب مدينته بخفاياها وانهياراتها وتصدعاتها وأزمات ناسها البسطاء. ومن هذا التبطين اللوني الأخّاذ، يجاهر الفنان بالخوف من لحظة السقوط في العدم. العمائر القديمة التي يرسمها حسن جوني ما هي إلا استعادة لذاكرة طفولته في حي زقاق البلاط، ولكن خطوطها أضحت معوجّة ومعالمها مشوهة وملامحها عشوائية. تتراءى المنازل التي شاخت كالعجائز متكاتفة يستند بعضها إلى بعض، وجدران الأحياء الشعبية تتآكل وتميل وتتقوض وهي تتهاوى، بينما المدينة غارقة في غوغائيتها، كما لو أنها اجتمعت تحت سقف واحد معرض دوماً للاهتزاز، لذا يخرج الناس من ثغراتها إلى الشارع المقفر في لحظات الهلع. لكن المدينة لا ترحل بل تغرق في أمواجها وبيوتها تنحني. يعرف حسن جوني أن بيروت لا يمكن الإمساك بها إلا بالحنين إلى مطارحها وناسها وأمكنتها ومقاهيها. لذا يُسقط على حاضرها شيئاً من الماضي. يدلف من باب الذاكرة إلى قاع المدينة، حيث الرجال في المقاهي مع الكراسي الفارغة التي تفوقهم عدداً وهي تتأرجح في الفراغ، لكأنها على وشك السقوط. وتتصاعد زفرات المتعبين المتسكعين الجالسين على مقعد طويل على شاطئ البحر، في ريب وترقب وقد بلبلتهم الأخبار المنشورة في صحيفة الصباح. وصباحات بيروت تأنس إلى أصوات الباعة المتجولين داخل أحيائها وأزقتها، حيث تتوغل ريشة الفنان إلى حوانيت باعة أقفاص العصافير، فتشيّد من تشابك خطوط هذه الأقفاص حركة انحباس روح الإنسان داخل قفصه الصدري. فالعصافير حرة والإنسان مقيد حبيس هواجسه وآلامه. من هذا المنطلق التعبيري الرمزي والشعري، فإن مدينة حسن جوني لم يبق منها إلا صورها الوجدانية وما أبقته المصادفات، هي ما بين الوهم والواقع المغموس بالألم. يجتمع فيها الناس ثم يتفرقون كأنهم عصبة أصدقاء طلع الصبح عليهم فلم يجدوا في الضوء غير الفراغ. لعل جديد حسن جوني هو تقنيته وأسلوبه في التجريد القائم على بسط اللون، بين محوٍ وتشفيف ضبابي في حركة تعصف وتهبّ وتثور. وهذا التباين ما بين الغموض والوضوح، والتشخيص والتجريد، يتراءى كذلك في استخدام اللونين الأزرق والأحمر بوفرة كمتناقضين متلازمين، في توفير مناخ من القوة والتوتر البصري. ما يريد قوله حسن جوني في مشاهده المدينية هو أبعد من المنظر الشعبي لحكايات الناس، انه عالم متلبد بيوميات الصمت والعزلة، يستدعي إليه أبطال اللوحة القدريين في مأساتهم المشتركة التي تعصف بهم، كي يصل بالمشهد إلى رموزه الباطنة وعمقه الإنساني. إذ تبدو التجمعات الإنسانية رجالاً ونساء متلاحمين في حركة كتلويه تحت مظلة واحدة تهددهم الريح الآتية من فضاء الخارج وتعصف بوجودهم فتتناثر ملامحهم وتتموه أطيافهم وتبدأ أرجلهم لتغرق في الرمال. فاللوحة المكونة من بعدين، تبدو مثل منصّة لعرض مسرحي أو رصيف على شارع مغلق أو هامش وجودي يضج بالعواطف والانفعالات والرموز والاستعارات. حسن جوني روح مفطورة على الأدبيات الشعبية الحزينة ومشاعره تحدوها الأشواق الدائمة من حب ورأفة وزواج وعائلة وحبور وألم. وهو الفنان التأملي الرؤيوي الذي يتوغل في ذاته مستنبطاً ما يضج في نفسه من صور وهواجس وحقائق. فاللوحة هي موقف من الحياة ومقياس لما يعصف بالإنسان في مساحة وجوده. ومن الأرض تولد دوماً حكاية الزوجين العاشقين اللذين ينبثقان منها ويرتقيان كغيمتين إلى الفضاء الذي يشع منه ضوء القمر. ومع أن موضوعات حسن جوني مستلهمة من مفاصل تجاربه السابقة، غير انه يهب أعماله الأخيرة أجمل ما فاضت عليه قريحته اللونية، من علاقات تقدح نضارة وتوهجاً بين تصادم وتناغم وكذلك بين فرح وقلق. ولئن كان المنظر البحري هو الأثير لديه، فذلك لأنه يعكس ميزة الحياة البيروتية وإطلالتها ورغد العيش فيها. هذا المنظر شكل جزءاً من ذاكرة الفنان، لا سيما أن نافذة محترفه الكائن في منطقة المنارة على مقربة من شاطئ البحر وأمواجه، حيث يرحل ببصيرته وخياله كي يلتقي بشخصياته فيمتزج بين ناس الأرصفة تاركاً ظله يمشي بين ظلال المتنزهين وتجمعاتهم وجلساتهم وأحلامهم، أولئك الذين ثبتهم على اللوحة كأطياف من وهمٍ في لحظة هاربة من الزمن. |