جولة سريعة لدقائق قليلة في معرض حسن جوني، كافية لتظهر في وجهك تلك العواصف التي تموج في لوحاته، بحركة تمتد من التنسيم اللوني الهادئ، حتى الانخطاف النيزكي الذي يجذب شخوصه وسهوله وقراه، ويرميهم في مكان وزمان مجهولين. كأن العواصف هي نفسها تحتل ريشته، وتدفع بها، كلما ضرّجها بالألوان، إلى هذا العنف التعبيري. أو كأن داخل الفنان مسكون بكل هذا الغضب، الذي يشعل الألوان الزيتية، ويقيم تلك الثورة التي لا تهدأ.
47 لوحة زيتية، من أحجام كبيرة ومتوسطة وصغيرة، يعرضها حسن جوني في «غاليري ألوان» لغاية 28 حزيران الجاري، ويعرض من خلالها نتاج السنتين الأخيرتين، منطلقاً من التواصل مع تجاربه القديمة، توكيداً وبلورة وربطاً، أو يبني عليها جديده، وينسّل منها عائلته الجديدة. ولا مانع، بعد ذلك، من أن ينحرف في اتجاه معالجات ومنحنيات جديدة في التجربة، ينقلب فيها على نفسه بجرأة، مخففاً من الرقابة الذاتية، تاركاً لريشته الاستجابة لترددات حالات إنسانية قاسية، يعيشها الفنان ومجتمعه. إنها حالات التوتر القصوى، التي تجعل الفنان ينحرف عن سكته العادية، أو طبعه المعروف، أو حتى عن سياقه العام، ليستطيع أن يخرج كل ما يختزنه من توترات وهموم وأسئلة، بلغة بعيدة عن المباشرة، ومرتفعة عن حدث بذاته، أو مكان بعينه، أو زمان بدقائقه وساعاته.
العواصف تهب مرات
العواصف التي تهب على مساحات جوني، أو الأنهار التي تتحرك بين أحياء لوحته، تحوّل الناس إلى شراذم وجماعات تشبه الأكوام، كما تحوّل البيوت إلى ركام يشبه القرى والأحياء المدينية. أو أن الناس والطبيعة تتحول إلى عواصف وأمواج وأنهار سارحة في اللوحة. البيوت تطيع العاصفة وتتلوى معها، أو تتكسر لعنفها، أو تسبح مثل جرم في فضائها، منجرفة مع أمواج التعبير. لا فرق بعد ذلك بين أن يتحول الناس إلى طبيعة أو تتحول الطبيعة إلى ناس، ما دام الفنان يستطيع أن يحوّل كل ما تصوِّره ريشتُه إلى مادة طيعة لانفعالاته الشديدة والمرهفة في آن. يكون التعبير لدى جوني مرة هادئاً، ومرة أخرى على جانب كبير من الثورة. لكنه حتى في هدوئه يأبى أن يحوّل المساحة إلى حالة صمت، ويهرب كثيراً من المساحات الحيادية. بل يبني لوحته على أساس توظيف كل العناصر في التعبير المطلوب وفي خدمة العنوان الذي يسعى إليه، وفي خدمة الهزة التي يريدها أن تحدث في المشاهد. إنها الشعرية التي ترتكز على الحوار بين الفسحات والكتل المكتظة في نواحي اللوحة، وعلى التضاد بين الساكن والعاصف، بين الفاتح والغامق، ثم بين فرح الألوان أحياناً وعنف حركتها. الشعرية ليست خارجية، إنما هي خصب ولادات من الداخل، هي أشكال تتفتح من داخل التجريد اللوني، من الجيشان العاطفي، من انفعالات الريشة. هذه المرة، لحسن جوني «انحراف» آخر، في معرضه الجديد، نحو موضوع نادراً ما سمحت به جدّيته المعلنة وشعريته التي تتمثل الحزن كثيراً، هو الحب، وإعلان العشق، وانكشاف بعض العري في جسد المرأة. قد لا يكون في ذلك استجابة جديدة، إنما هو إفصاح جديد عن لوحات يخبئها عنّا الفنان، أو يواريها حتى لا تغطي على الموضوعات الإنسانية الأخرى أو تكون قطب جذب أساسيا. يعرضها هنا في أماكن متوارية في الصالة، لكن الحب كالذهب يلمع من بعيد. خصوصاً إذا حوّل العواصف اللونية، التي يطلقها في لوحات المعرض، إلى شغف مشغول بنار حامية، إذا ما نسّم الحب عليها. لا مانع إذاً من أن تجتمع في المعرض شعرية الحزن وشعرية الفرح والعشق والغرام، فالجسور مفتوحة بينهما في الأساس، ولا بأس أن يمسك بأقاصي النقيضين. فالحياة فصول، فمن ربيع الحب المشتعل إلى خريف العمر أو خريف العلاقات أو خريف الأزمان أو خريف الحياة اليومية، حيث للألوان مناخ آخر مسكون بالغرابة، وفي المساحة كثافة عوالم داخلية، تُبقي العين المتجولة فيها مستنفرة ومتوترة ومستنفرة طوال الوقت. حيث الحركة متكسرة، تستجيب لتكسر أغصان الشجر في مهب الرياح وعواصف المطر الهاطل كالرصاص. في هذه اللوحة يقدم جوني ضرب ألوان على إيقاعات خريفية، وانفعالات على أعتاب المخاطر. هي عوالم جديدة على ما اعتدنا رؤيته في أعماله، وخطرة ومخيفة يركّبها جوني في مساحة هذه اللوحة. على أن هذا التكثيف للمساحة ليس جديداً في تقميش مساحته، وتكوينها الشديد التركيب، التركيب الذي لا يربك آلية التلوين، ولا يربك العين التي تجد منافذها وممراتها دائماً في أبعاد اللوحة. نستطيع أن نقتطع مساحة صغيرة من لوحة جوني ونعلنها لوحة. ولا ندري إن كانت اللوحة تولد من المقطع أم أن المقطع يولد من اللوحة. تشتبك التفاصيل والكل في تآليفه وتكاوينه. وهو، في النهاية، يصور لوحته كمن يحيكها خيطاً خيطاً. يعتني بمادته ومساحته، وكثيراً ما تبدو، جراء ذلك، نقاط الارتكاز موزعة على مساحة اللوحة.
علامات فارقة
يوزع جوني ناس اللوحة على شكل جماعات متفرقة، ومنازل مشهده القروي أو المديني على شكل كتل تتحرك وتعبر، تفرح وتحزن، وتتهرم وترفع رأسها. إنها طريقة في إنطاق البيت والقرية والمدينة، إنطاق الأشياء، أو العكس، أي تحويل الناس إلى كتل حجرية، كتلك اللوحة التي يصور فيها «ناس الحجارة». هو يلعب في المسافة بين الحركة والسكون، بين الإنسان والجماد، بين أن يكون الشيء ذاته وسواه. مساحات واسعة للعب في معرض جوني، منها أيضاً ذلك اللعب في تشكيل الكتل، فالشخوص يتجمعون مثلثاً أو مخروطاً أو مربعاً... والعاصفة يستطيع الفنان أن يلويها، فتصبح كالأرجوحة تموج فوقها المنازل والناس... وهكذا إلى ما هنالك من لعب لا ينتهي، بل لعب مفتوح على اللانهاية، تماماً مثلما هي العاصفة والحب ونار العشق وشغفه المعهود بالتلوين. وتقسيم اللوحة إلى مستويات يحتلّ الواقع بعضها والمخيلة بعضها الآخر. المعرض محطة مكثفة وغنية، لا بل كل لوحة قد تتحول إلى محطة لا نملّ من مشاهدتها، والوقوف أمامها، لا بل إن بعض اللوحات شكلت علامات فارقة في تجربة الفنان الذي لا يفاجئنا تألقه أبداً، في تحويل اللون إلى مخيلة تعصف فيها صنوف التعبير.
|