عندما تتحدث الى الرسام التونسى نجا المهداوى "مواليد 1937" تلمس عمق ثقافة الرجل واصراره على نقل الحرف العربى الى عالم التشكيل ضمن ايمانه بقدرته على تحديث اللوحة و التوجه بها الى تخوم ابداعية تتداخل فى عوالمها الفنون.
هذا الفنان صورة عميقة لاجابات تحيل الفارئ الى استفهامات ضرورية حول اشكاليات التلقى البصرى داخل الفنون و تأخذ عينه الى معايشة جديدة لقضايا الرسم التونسى والعربى والانساني.
آلأنا وآلآخر
× إذا كان للفنّان من معلّم ومن صنم فإلى أين تأخذك العين ربّما يكون بول كلى ذاك الذى استطاع أن يؤسّس حداثة أخرى تكتشف فى الشرق عمق الحرف وبهجة الرّوح؟
- إنّ علاقتى بـ بول كلى هى علاقة التقاء وليست علاقة "صنميّة" إذ أنّى أنتبه إلى تجربته اللافتة فحسب، ولكن كواندانسكى أثر على رؤيتى وكان أقرب إليّ نظرا لانتمائه إلى موسيقيّة فنيّة تخرج عن كلّ تصنيف وعن كلّ مدرسيّة إنّه بالنّسبة إليّ الحداثة الحقيقيّة. لقد حاولت أن أكون قريبا منه. ولكنى أثمّن رؤية بول كلى لحضارة الشرق واكتشافه لعالمنا الحقيقى وخاصّة عندما صدمته حروف القيروان المنقوشة على الجدران.
× أين أنت من الخطّ العربى إذ أننا نعلم أنك تفرّ من تسميتك بالخطّاط؟ - إنّ الخطّاط هو مطبق للقواعد وعالم بالمدارس وهو مبدع فى نقلة معرفتها به ولكنّ الكثير من الخطّاطين ظلوا يحاكون هذه المعارف بينما المطلوب هو العودة إلى الاستفهام حول الأصل: فلم لا يعود الفنّانون إلى الاستفهام حول نشأة الخطّ العربى والإبداع؟
فأنا أخيّر كلمة "رسام" فى مفهومها العميق إذ أنّه مثلما هو فى علاقة مع الجميل فهو فى علاقة أيضا مع ماهو اقتصادى وسياسى واجتماعى إنى لا أرفض الماضى بل إنى أحدّثه وأحاول انطلاقا منه أن أقيم علاقة مع الآن ومع المستقبل.
× ما هى علاقتك بـ"مدرسة العلامة" " L’école de signe " وتحديدا مع محمد خدّه؟ - إنّ علاقتى بـ"محمد خدّه" هى علاقة احترام من غير أن يكون بينى وبينه أى تأثر.
× وماهى علاقتك بفريد بالكاهية؟ - إنّ علاقتى بفريد بالكاهية هى علاقة احترام من غير أن يكون بينى وبينه أى تشابه.
× أين أنت من الحركة التشكيلية العربيّة أو لنقلب الاستفهام أين هم من فضاءاتك التشكيلية؟ أى هل من تقارب يمكن أن يجمع بينك وبين بعضهم؟
ج: انطلاقا ممّا أستمع إليه ومما أشاهده ومما أقرأ داخل المصنّفات الفنية فإنى أكتشف أسماء فنية محترمة فى المجال التشكيلى وقد اكتشفتها داخل الأفق الغربيّة المهتمة بسوق الفنّ. والغريب أنّ أغلبيّة المستشارين الذين يصنّفون الأعمال الفنيّة للعرب هم غربيون مما يضيّع علينا فرصة الوعى بخصوصيات أعمالنا. إذن المطلوب هو جعل العارفين بفنّنا من ذائقتنا العربيّة الخصوصيّة حتى لا تضيع الأسماء الجادّة والتّجارب الشبابيّة العربيّة الحقيقيّة. فلماذا لا نشرك المختصين العرب الذين يتواجدون بالعشرات داخل الجامعات الغربيّة فى كل الاختصاصات الفنيّة؟ لدينا حركة فنيّة عربيّة محترمة تنتظر الكشف عن أبعادها وعمق تجاربها. إنّنا ننتظر ملتقيات عربيّة جديّة والاهتمام أكثر بالمتحف.
× تحديدا كيف يمكن أن تتمثل موقفك من ذاك التيّار العربى الذى نشأ فى السبعينات تحت إسم –البعد الواحد- حيث كان الاحتفاء بالحرف والسّعى نحو الهويّة الفنيّة العربيّة؟
- كان موقفا صادرا عن أصدقاء أحترمهم إذ أنّهم عبّروا عن مواقف جديّة يختلط فيها الشاعر بالرسّام والنّاقد. ولكنّ هذا الموقف الصادر عن "العراق" بقى فى حدوده القائمة على العرض فحسب من غير أن يقع تطوير هذه الفكرة وتعميمها على باقى الأقطار العربية. لقد بقيت الفكرة فى حدود الإعلام فحسب فلماذا لم تتطوّر الدّعوة إلى الفعل والانتشار ؟ فمن الأسماء الفنيّة إسماعيل فتاح –رافع النّاصري- وشاكر حسن آل سعيد ومن المنظرين جبرا إبراهيم جبرا ومن النقاد بلند الحيدرى وضياء العزّاوى فكيف يمكن أن تضيع هذه التجربة؟
إن الأمر يتطلب وعيا جماعيّا نستدعى فيه كل الأعمال المنجزة منذ الستينات فى تونس وفى المغرب وفى باقى الأقطار العربيّة حتى لا يتحوّل "الغرب" إلى قارئ غير مختص لتجاربنا. إنه ينظر إلينا نظرة نفعيّة ماديّة تختلف عن مصادرنا الأصلية.
العين والفنون
× كيف استطاع نجا المهداوى أن يحوّل نص "مراتب العشق"1 "لرجاء عالم" كنصّ سرديّ إلى أفق بصريّ؟
- أريد أن أشير إلى أنّ هذا النّصّ هو تذكير بالتراث مثلما هو عمل تتداخل فيه أعمالى السابقة بمجال سرديّة هذا العمل. إن هذا النّصّ ولد من حوار فنّى بين رسّام وبين روائية مما يجسّد هذا الالتقاء بين الفنون.
ففى مرحلة أولى: وقع تقسيم العمل إلى ثلاثة أجزاء أو ثلاث مراتب وهى : مرتبة النجوم ومرتبة الليالى ومرتبة الحجاز. وهذه الطريقة من التقسيم موجودة فى التراث العربي.
فى مرحلة ثانية: وقع تخزين العمل فى الحاسوب. فى مرحلة ثالثة: اخترت لكل الليالى خطّا من داخل الحاسوب مميزا لها نوعا وحجما وكذلك فعلت مع المراتب والنجوم بحيث أصبح لكل منها وجود مميّز بصريّا عن الآخر.
فى مرحلة رابعة : ركّزت اهتمامى على توزيع بصريّ خصوصى لهذا العمل وذلك بتقديم قراءة بصريّة له تجعل القارئ يتّبع هذا العمل من خلال تجاوز نظام المتابعة المعهودة والخطيّة له إلى قراءة لا تهتمّ بترقيم الصفحات بقدر ما تهتمّ بالبحث عن المتشابه البصريّ. إنها قراءة تنبع من علاقة حوار بينى وبين الحاسوب حيث يصبح الخطّ مجالا بصريّا وصوتيّا فى آن ذلك أننى عملت على توظيف الإشباع والمدّ والتفخيم الصوتى وتحويله إلى صور بصريّة وهو ما ظهر فى مدّ واضح لبعض حروف الكلمات.
فى مرحلة خامسة : وقع تصفيف هذا العمل وتصميمه وتنظيمه بمنطق يراعى السّواد والبياض من ناحية والألوان من ناحية أخرى.
× مصنّفك الفنّى "مراتب العشق" تجربة لافتة إذ أنه كان حوارا بين الفنون فلقد حاولت انطلاقا من حوار بينك وبين الكاتبة السّعوديّة "رجاء عالم" أن تشكّل حوارا بين فنّين ظاهريّا مختلفين فنّ يعتمد الشفويّ والسّمعيّ –السّرد- وفن يعتمد العين –التشكيل والخط. فما الذى تسعى إليه تحديدا وعن أيّ متلقّ تراك تبحث؟ أم لعلّك لا تعترف بأيّ حدّ بين الفنون ؟
- أوّلا: إنى أسعى إلى هدم الفواصل بين الفنون أى تأسيس شاعريّة خاصة تجمع ما بين الفنون حيث يتداخل المرئى بالسمعى والعين بالأذن وحيث تهدم المسافات بين الماضى والحاضر.
ثانيا: إنى أحترم الجمهور أو المتلقّى للفن عامّة ولكن همّى الأساسى هو تأمّل الذات لتأسيس موقف من الحداثة فى مستوى البصريّة حيث تصبح "الأنا" فى تناغم مع ذاتها وتاريخها واستشراف لمتلقى مماثل.
× لعلّك تبحث فى التراث لتفهم وتتجاوز: فهل من علاقة بين هذا العمل وبين تجربة "الواسطي" مع مقامات الحريري؟
- إنّ اهتمامى بـ"الواسطي" هو اهتمام ينبع من حرصى على المعرفة ولكنّه بقى فى مستوى التوثيق أمّا بالنّسبة إليّ فإنّ عملى تشكيليّ إبداعيّ.
× إنّك تشتغل على أرضيّة فنيّة تؤمن بانفتاح الفنون على بعضها فإذا كان "مراتب العشق" انفتاحا فعليا على عالم السّرد فإن هذا المصنّف أيضا باعتماده الخطاب البصريّ المتنوّع الأشكال والأبعاد والرّهانات يحيلنا أيضا على القصيدة البصريّة تلك التى كان "محمد بنيس" مجرّبا جادّا لها. فهل ترى من وشائج إبداعيّة بينكما. وهل هى دعوة باطنة لإحياء ذاك الخطّ العربيّ لإعلان هويّة ممكنة وتقارب ضرورى بين "روح" تصرّ على إثبات ذاتها فى عصر كافر بالقيم الشرقيّة والمغربيّة على حدّ السّواء؟
- إن "بنيس" يحمل فى "لاوعيه" بذرة التّشكيل ذلك أنّه من خلال تجربته البصريّة يجسّد هذا الميل غير أنى لم أفكّر أبدا أن أكون شاعرا إلاّ أنّ شاعريّة الفن هى الجامع بيننا.
إن الخطّ العربيّ لم يمت ولم يغادر روحانيّتنا إننا اليوم نتفطّن إلى هذا العمق بحكم ما يعيشه حاضرنا من هجمة على الهويّة. إنها هجمة على كل ماهو مختلف ولذلك فإنّ الحرف يظلّ سلطانا.
× فى "مراتب العشق" تأخذك ريشتك وحركة يدك ومرجعيّاتك إلى أفق عولمة الصورة ذلك أن المتفحّص لهذا العمل يلمس حرصك على إخراج عملك باعتمادك تقنيّات رقميّة عالية : فهل هو خطاب بصريّ آخر غايته خلق مشاهد جديد ينتعش بالإضاءة والألوان وفق رؤية تحترم تقنيات إنتاج اللوحة والمصنّف من ناحية والعمل على ضمان جودة تلقّى العين له من ناحية أخرى؟
- لقد أعدت كتابة حكاية العمل وذلك باعتماد خاصيات مختلفة للخطّ بتخصيص كل مرتبة من مراتب "الليالي" بنوع خاص ونوّعت أيضا أنماط الكتابة حرصا على تغيير طريقة التقاء العين بالنص وتأسيس ذائقة فنيّة أخرى تخالف السّائد. هو استدعاء للتّراث بتقنيّات بصريّة جديدة توظف التّقنيات الرّقميّة من غير التنكّر للأصل: حركة اليد ورؤية الفنّان العميقة للذات وللتّاريخ.
لقد كانت "الحاشية" فى العمل متكوّنة من تداخل بين فنون تشكيلية متعدّدة هى الرسم – النحت السجاد والكتابات على الرّق وعلى القماش...
هى حاشية تتنوّع بصريّتها مثلما تتنوّع أمكنة تواجدها فهى هناك فى معارضى السّابقة أو هى هناك فى بيتى أو هى هناك فى "كاتالوغاتي" السابقة أو هى هناك فى متاحف عالميّة.
× أين يمكن أن يصنّف هذا العمل ؟ - إنه كتاب لأنّه يحمل خاصيات الكتاب رقم إيداعه أولا وغاياته المعرفيّة والقيميّة. بينما "الكاتالوغ" دليل. وهذا العمل "مراتب العشق" كتاب الحوار بين الفنون يقرأ ويشاهد ويفكّر فيه ويؤوّل.
× مصنّفك "مراتب العشق" 1998- أقفلت به الألفيّة الماضية لتصدر سنة -2004- Le maitre d’amour- - سيّد الحبّ - منطلقا من نص " Rodrigo de Zayas " حول "إبن عربي" فما الذى يسعى لإضافته هذا النصّ؟ لعلّها إنسانيّة أخرى أو إمكانيّة أخرى لبصريّة التلقّى ؟ أو لعلها موقف من التشكيل ذاته ؟ أم لعله ذاك النص الآخر حيث حداثة أخرى وإمكانات جديدة للالتقـاء بين الفنون –الشعر والتشكيل- وبين الحضارات – أنا الرسّام العربيّ – وذاك الكاتب الغربيّ والنّحن المتلقين هنا وهناك؟
- إنّ هذا الكاتب Rodrigo de Zayas هو موسيقى وعارف بالشعر العربى وبالأنساب أيضا وقد شكّلت عملى انطلاقا من ذاتيّة فنية تقدّس هذا التوجّه وتنشغل به. وقد صمّم هذا العمل من قبل فريق فنيّ ممتاز أكّد على اللّون الذهبيّ. والرّابط بين هذين العالمين أو هذين "الكتابين" يظل تلك الروح الشرقيّة الجامعة. ولعله أيضا ذاك التداخل بين الفنون السّمعيّة والبصريّة. إنها رغبة أخرى لإلغاء الحواجز بين الفنون وبين الشعوب وبين الحضارات. إنّه حوار يظلّ دائما يحترم كلّ من يحترم وجودنا الفنّى والتاريخيّ.
× هل ترى للفنّ اليوم من رسالة خارج وظيفته الجمالية؟ وهل بإمكان الفنان اليوم أن يبدع خارج ركونه إلى عمق شعوره بالانتماء لثقافة ولحضارة وللحياة؟
- إنّ حداثة الفنّ ترتبط أبدا بهذه الجماليّة ولكن يظلّ احترام الإنسان هو القاسم المشترك بين كل الحضارات. |