نعرف جيدا انيتا توتيكيان، الفنانة المليئة حركةً واختراعات، كلما هناك حدث يستحق التوقف عنده. فهي تنحت، تركّب، تعمّر، تخلط، وتنوّع التجهيزات والرموز والفسيفساءات، لكي تحضّ اللبناني او اي انسان آخر على رفض ما يحاك حوله، أو على التجاوب معه. هي لا تبقى متفرجة أو على الحياد. ولا مرة. اعرفها من زمن بعيد. اراقبها. اقف دوما على ما تبتكره. توفَّق احيانا وتفشل احيانا اخرى، انما هي مقدامة على طول الخط. عندما اشتركنا في معرض "فن المرأة" في المتحف الحديث في الجزائر، عرضت أعمالاً تنتمي الى التجهيز، اصطحبتها معها الى هناك، لتقول كيف يستغل الكبار بؤس الصغار. وكانت موفقة. هذه المقدمة تستحقها انيتا توتيكيان. انها دائما، كما يقول البعض، مع اللحظة الحالية، وفيها. لا يمر حدث الا تعاطت معه، احيانا بالهزء واحيانا اخرى بالحرقة والاسى. اليوم، تنتقل الى الرسم. تركّب معرضا بكامله لتلعب فنيا على حرف الجيم، بالعربية وخصوصا باللاتينية.
تعلّق ما يقارب الثلاثين لوحة في "غاليري جانين ربيز"، الروشة، تدور كلها بطريقة فنية حول حرف الجيم المكوّن من الوان زاهية متناسقة ومتلاحقة فكأنها في حالة غليان، تتقارب او تتباعد من الجهات الاربع، اذا افترضنا انها مشتقة من المربع الافتراضي، او تدور حول ذاتها في تعاريج، مبسطة ومعقدة، بحسب مزاج الفنانة التي، كما تقول، بقيت شهرين تعمل على لوحة واحدة لأنها تودّ مزج مشتقات حرف الجيم بالفرنسية والعربية في الاشارات نفسها. من هذا الحرف، تتكوّن اشكال هندسية متشابهة في داخل مربع او دائرة او اي شكل هندسي يتآلف افتراضيا في مضمون واقعي يرضي العين والعقل معا. من الجيم الى السفينة الفنيقية التي تركّبها في حركات ايقاعية متلاحقة كالاسهم الممدودة الى أعلى والمعقوفة فجأة لتنحني على حركة تسبقها مرة وتليها مرة اخرى.
تبحث انيتا عن الجيم في فن الارابيسك العربي. تتوقف عند الحركات التي لا تنتهي. تعرف كيف تتوالى الاشارات التردادية حتى لو كانت خارج اللوحة. هكذا تتمكن من توزيع ابتكاراتها، داخل خانات مرةً، وضمن سلسلة متتالية مرة. تدرج الحرف الجيم في مربعات متغيرة الصبغات وتحمّلها رسالة الدوران على ذاتها لتذكّر بحلقات الذكر التي تنتهي بالانخطاف او بالوقوع في حالة نفسية قريبة من الهيجان الجماعي. تترك لوحاتها بدون عناوين لتنحفر في ذهن المتلقي على غرار الاسئلة التي لا أجوبة لها. هكذا تتحدّى عيون الجمهور. فلكلٍّ الحق في التسمية او التأويل او الذوبان في حيرة لا ترضي الفضوليين الذين يودون ان تكون الاشياء واضحة مثل عين الشمس. المناخات في المعرض، الذي يستمر الى 18 حزيران، هي للارتجال لكي يماشي المتلقي مزاج الفنانة المتغيّر بحسب اللوحة والصبغة والتدرجات والتردادات.
من اجل كسر الرتابة تلجأ انيتا توتيكيان الى تبديل انسياق الحرف والى التغيير في الحركات الايقاعية خوفا من ان تتعب العين ويتولد شيء من الملل يصعب على المرء ان يتحاشاه. ففي الاعمال التي ترتكز دوما على الاعادات الهندسية، ثمة مطبات حتى لو كانت كلها مدروسة حسابيّا بدقة فائقة. الموضوع هنا يثير مشكلة لدى بعض الناس. لكن اللوحات تبقى بعيدة عن الاعادات في الحركات وفي الصبغات، وذلك من شأنه ان يخفف وطأتها على المتلقي.
يشار اخيرا الى ان اللعب على الحرف ذاته يعتبر تحديا كبيرا لمن انهى صفوفه الابتدائية ونسي مبدئيا كيف تصاغ الاحرف المصفوفة بعضها خلف البعض. نلتقي مع انيتا توتيكيان التي تعيدنا الى مرحلة الصغر. وخيرا تفعل، لأنها تعيدنا الى براءة فقدناها منذ عشرات السنين. نبتسم ونحن نخرج من الصالة المعجوقة بالخطوط الملونة، لكأننا في حاجة ملحّة لنلتقي بسنوات طفولتنا البعيدة. لور غريب
|