(أبدأ بالأبعد لأنتهي بالأقرب) قلت لنفسي ما ان غادرت القطار القادم إلي استوكهولم في طقس مشمس. الأبعد هو الأمريكي أندي وارهول والأقرب هي السويدية ماريا فريبيري وما بينهما الفرنسي تولوز لوتريك. لم أكن في حاجة إلي خارطة. لن أمثل دور السائح الغريب، أما الريفي (أنا القادم من الريف) فسأسعي إلي إخفائه عن عيون المارة قدر ما أستطيع.
سيكون الماء دليلي إلي الضفة الأخري. واجهة المتحف الوطني غطتها واحدة من صور لوتريك. فتاة من الطاحونة الحمراء التي صار العالم كله مسرحا لها. لا تحتاج إلي التعريف بنفسها أبدا، بل انها صارت تعرف به، ذلك الشاب الذي صار رمزا لنوع غامض من الشغف. اغواءات لوتريك لا تزال ممكنة. أبعد قليلا، علي تلة في الجانب الأيمن يقع متحف الفن الحديث، حيث يقام معرض شامل لوارهول، بعد أربعين سنة من آخر معارضه في العاصمة السويدية.
غ2ف
وارهول (1928 ـ 1987) الذي حضر هذه المرة يبدو مختلفا عن وارهول الذي نعرفه نحن. ابن نيويورك، الشاب السلافي الذي هاجر والداه إلي الولايات المتحدة ليصبح فيما بعد واحدا من أهم أعلام ذلك البلد، حضر هذه المرة في صفته خالق صور متحركة. هناك طبعا شيء من وارهول التقليدي الذي رسم مارلين مونرو وماو وكرسي الإعدام وعلب الحساء والكوكا كولا والفيس برسلي ولكن هناك بشكل أساس الأفلام السينمائية التي صورها وارهول وهناك أيضا حلقات برنامجه التلفزيوني كاملة، ووسط كل هذا الحشد الهائل من المواد الفنية هناك الوثائق (صحف ورسائل ومدونات وكتب وصور فوتوغرافية) التي تؤرخ لسيرة رجل عاش من اجل أن يكون مختلفا، حتي وهو يشيد عن طريق الابتذال أسلوبا صادما للحداثة.
لا يحتاج المرء وهو يتنقل بين قاعات المعرض إلي قدمين إضافيتين بل وأيضا إلي عيون وآذان مضافة، ليري ويسمع بما يجعله موجودا حقا. شاشات العرض السينمائي وأجهزة التلفزيون انتشرت في كل مكان وقرب كل واحدة منها هناك (هيد فون) يضعه المرء علي أذنيه ليسمع كلاما يغادر زمانه دائما. سيرته كانت هناك ولكنها كانت أيضا سيرة البشر والمدينة والأسواق والكتب والطبيعة والبنايات والمكائن. كعادته، لا شيء يلمسه أو ينظر إليه أو يصغي لكلماته إلا وكان في إمكانه أن يحوله فنا. ما الفن إلا شيء يشبهنا وما الجمال إلا شعور نعيشه ونرتجل حاجتنا إليه. موعظة وارهول تتردد في كل جزء من المعرض. أعماله التي يمكن تقليدها بيسر وبالأخص تلك التي نفذها بتقنية الطباعة الحريرية، إنما تشير إلي فكرة الفن الممكن في كل لحظة. الفن الذي يشير بشغف إلي الناس العاديين، كونهم أصحاب الحق في استعادة الجميل، لأنه صناعتهم.
غ3ف
يا لشقاء لوتريك! نغبطه علي شقائه. كيف تسني له أن يعيش محاطا بجوقة نساء فريدات من نوعهن، يرقصن ويهذبن الحب في حاضنة للسعادة المزيفة. كان لديه مهنتان: الرسم والحب. ممر يقود إلي الآخر وما بينهما هواء لا ترحم عاصفته. هو الآخر عاش بعمق تحولات عصره، فكان عليه أن يخترع فن البوستر، معلنا عن بضاعة يمتزج من خلالها الجمال بمادته البشرية. رسم كثيرا لكي لا يقول شيئا، لكي يمنع الكلام، لكي لا تكون خطوطه المرهفة عرضة للسؤال. كلما مررت بـ(بيغال) في باريس التفت إلي ملهي الطاحونة الحمراء. (لا يزال في مكانه مثلما تركه لوتريك) أقول لنفسي. كما لو أن علي هذا المكان أن يذهب هو الآخر إلي المتحف مثلما حدث للوتريك نفسه.
من يذكر بالآخر،
لوتريك أم ذلك الملهي الباريسي العريق؟ رسوم تولوز لوتريك (1864 ـ 1901) لم تعتق، لا يزال فيها القدر العظيم من الغواية، لا تزال شهوات الرجل الذي رسمها تتفجر من خلالها، ولا تزال نساؤه مغريات. أما ذلك المكان فكلما رأيته تذكرت فلورنسا في إيطاليا، أشبه بمقبرة. أما الطاحونة فهناك طاحونات أجمل منها بكثير في هولندا. قيمتها أنها كانت رمزا لعلاقة ما بالحب في زمن مضي. لوتريك الذي لا أحد يعرفه بقدر ما عرفته النسوة اللواتي صنعن مجد هذا المكان هو في حقيقته نوع من اللغز المسلي: فنان عظيم صنع مفهوما مغايرا للجسد. الايروتيكية التي نادي بها لوتريك لا تزال صالحة لعصرنا، بل انها تضفي شعورا نبيلا علي كل تفكير ايروتيكي. ابن باريس الواثق بقدرتها علي أن تكون سيدة العصور في تفانيها في الدفاع عن الجمال، ذلك هو لوتريك في كل لفتة من لفتاته القلقة. (200) لوحة منه تكفي لكي يشعر المرء بالهزيمة. فالجمال الذي لا يهرب لا بد أن يهزم كل محاولة للاستيلاء عليه.
غ4ف
يستقبل السويديون فنانتهم ماريا فريبيري (مولودة عام 1966) باعتبارها فاتحة. (هي ذي الأمريكية عادت) يقول لك السويدي وهو يشير إلي الملصق الذي يروج لمعرضها الذي يشهده منذ أشهر بيت الثقافة في وسط ستوكهولم. معارضها تشكل دائما حدثا استثنائيا يليق به الاحتفال. لماذا؟ بالنسبة إلي السويديين فان فريبيري حققت ما حققه من قبل أديبهم الشهير أوغست ستنردبيرغ (ستنردبيري بلغتهم): السويد موجودة جماليا في العالم. فريبيري تعيش في نيويورك بشكل دائم، وهذا ما يحلم به كل سويدي بالرغم من رفاهيتهم المحكمة. صور فريبيري الفوتوغرافية وأفلامها (بتقنية الفيديو) تحاكي هذا الحلم،
وإن كانت تحاول الارتقاء به إلي مستوي النبوءة الحلمية. ما من شيء واقعي في تلك الصور، بل ان كل شي فيها يفتح الأبواب واسعة في اتجاه حلم، هو الآخر يفتح أبوابا علي جهات مختلفة. بشر بأناقة مفرطة يفتقر إليها السويديون بسبب مناخهم السيء يحلقون في الفضاء، بعيدا عن هذه الأرض. لا تقول فريبيري شيئا مفاجئا، كل الفتيات والشباب الذين يغادرون المدن الصغيرة في اتجاه ما يمكن أن نسميه مجازا مدنا كبري يحلمون في الذهاب بعيدا. لم تعد الرفاهية مطلبا، صار الغياب عن المكان هو الهاجس الذي يقض مضاجعهم. لا مكان (فريبيري) يشير إلي ذلك الغياب، بل يحث عليه. لذلك يحبونها مثل ريفيين لا يملكون العينين اللتين أنظر من خلالهما في صفتي ريفيا مغدورا. |