"إن الإنسان هو في نهاية الأمر قضيّة"، بهذه المقولة للشّهيد غسان كنفاني يمكن أن ننطلق في حديثنا عن نعيم فرحات هذا الإنسان الذي لم يصل إلى مرتبة الفنان ولكنه تجاوزها فعلا بفضل مشروعه النادر و بفضل انحراف بسيط في مصيره و مسيرته حوّل توجهه، فبدل أن يكون فنانا بالصفة أصبح فنانا بالإحساس والمبادئ والطموح، فمن تاجر للوحات الفنيّة إلى صاحب مشروع إنساني شامل و راع حقيقي لأعمال فنيّة نادرة جمعت أكثر من فنان و أكثر من تجربة و أكثر من حكاية.
ولد نعيم فرحات في بيروت سنة 1958 لعائلة جنوبية، نشأ في الكويت التي حمل منها مأساة بقيت راسخة في ذهنه و دفعته نحو الالتزام و الانغماس في الواقع لكن بأسلوب فني إنساني راق.. انتقل سنة 1978 إلى الولايات المتحدة الأمريكية و فيها أنهى دراسته في الفلسفة و علوم الأديان و كانت له رغبة عميقة أن يصبح فنانا لكنه فشل و رغم ذلك ظل مهووسا بالفكرة، فكرة جعلته يتبنى مشروعا للتعبير عن الفن بطريقته الخاصة، في سنة 1987 انطلق في مشروع مختلف تمثل في اقتناء اللوحات الكلاسيكية و إعادة ترميمها و بيعها حسب الرؤية التي أرادها فيها، و شيئا فشيئا تحوّلت تجربته لتصبح أعمق و أشمل و أكثر إنسانية و ذات أبعاد وطنية، خاصة و أنه يرى أن الفن بالأساس هو غاية جمالية هدفها الدفاع عن القضايا الانسانية لأنه رسالة نضالية من أجل الثورة
و الحرية و منفذ للاستمرارية الإجابية... كما يرى أن مسألة الفن للفن إنما هي هروب يشجع على الفن المجاني و الفكر اللامبالي الغالب عليه طابع التسلية المعزولة عن الواقع الانساني البعيد عن المسؤولية القائمة على استلهام مضامين الواقع لكن برؤى فنية تعكس الوعي و النضج ليصبح الفن "أثمن من الحقيقة" كما قال "نيتشة".. لأنه إن لم يكن يعبر عن القضايا الإنسانية فلن يرتقي إلى مرتبة الفن إذ سيكون جامدا و جافا و هذا ما لاحظه عند عودته إلى لبنان " عند عودتي إلى لبنان وجدت أن الفن اللبناني قد خضع للتجمد و عدم التطور فاتجاهه نحو التجريد جعله ينفصل عن الواقع و هذا برأيي ظاهرة غير صحيّة، الفن يجب أن يجسّد تاريخ الشعوب العربية تجاه الظلم
و الإحتلال".. و من هذه الرؤية انطلق في البحث و تكوين مجموعاته التي حوّلته إلى متحف آدمي... فقد أعادته الصدفة إلى لبنان سنة 2003 أين وضع مباشرة أمام نتاج سمبوزيوم "معتقل الخيام" و منه أنشأ أولى مجموعاته "مجموعة معتقل الخيام" تضم 104 عمل لـ70 فنان عربيا
و أوروبيا كانوا اجتمعوا سنة 2002 داخل المعتقل و منه استنبطوا أفكارهم و مواضيعهم التي حملت مناخات التعذيب و الإعتقال أرجعت صدى صرخات ما يقارب عن أربعة آلاف سجين و حولتها من الظلام الدامس إلى النور الدافق بالأمل، أرخت لوحشية الأسر و لشرعيّة المقاومة الإنسانيّة من أجل الحرية و لعل من الصدف المثيرة أن تنجو هذه اللوحات ليصبح نعيم فرحات منقذها و لتبقى شهادتها راسخة عن معتقل يعود تاريخه إلى سنة 1933 دمرته إسرائيل بالكامل اثر عدوانها الأخير على لبنان لكي تمحو جرائمها التي ستظل مؤرخة في هذه الأعمال.
و في سنة 2004 أنشأ مجموعته الثانية "صنع في فلسطين" بعد معرض إنساني فريد جمع 23 فنان فلسطيني كسروا الحظر المفروض عليهم من الإحتلال الإسرائيلي الذي منع خروج و عرض أي منتوج يعبر عن فلسطين في ظل سياسة تمنع حق الإنسان الفلسطيني من الوجود، و لكن بفضل الإصرار تم تركيز العمل الفني للتمرد على هذا الحصار و إثبات الحضور الفلسطيني.. الأمر الذي شدّ نعيم فرحات لهذه الأعمال التي اقتناها و عرّف بها فكسرت حصار الإحتلال و المنع الذي مارسته الحركات الصهيونيّة في الخارج و خاصة في أمريكا.
ثم نجد "مجموعة عسقلان" و هي تجربة تعكس رغبة الإنسان في الحياة و توق غريب للحرية تحتوي على 38 عملا فنيا بمادة الشمع و هي أعمال تحكي قصة و مغامرة تستحق أن تروى حتى يعرف العالم مدى تشبث "الفلسطيني" بالبقاء و الفعل الراسخ، هي تصف ما عناه الأسرى في سجن عسقلان حيث كانوا يبتكرون منهجا فنيا ينعش مخيلتهم و ينسيهم همّ الأسر كانوا يقومون برسم أعمال تشكيلية على أغطية وساداتهم و كانت الأغطية تهرب في أكمام الزوارالذين يتولون تهريبها من السجن و يعرضونها للبيع لتعود مداخيلها المادية على ذويهم ليصبح فقدان غطاء وسادة داخل السجن عقابا و عزلا لأن السجين من داخل سجنه استطاع أن ينقل صورة عن السجن إلى الآخر
و قد اشتهر من بين الأسرى الفنانان زهدي العدوي و محمد الوقوعي اللذان خرجا من السجن في عملية تبادل للأسرى بتجربة ستبقى مؤرخة في أعمالهما وفي مجموعة عسقلان.
كما نجد مجموعة المستشرقين الجدد و هي تجربة لفنانين غربيين قدموا إلى الشرق، "شرق القرن 21" و شاهدوا ما يحصل من انتهاك للحريات و من تدمير و حروب ليعبروا بفنهم عن الألم و معاناة المواطن العربي فكان دورهم مختلفا عن مستشرقي القرن الثامن عشر و التاسع عشر الذين نقلوا عن الشرق حياة البذخ و الترف و النساء.
ثم "مجموعة أرشيفية" تؤرّخ لما عاشه لبنان البلد الصغير مساحة و الكبير تاريخا و أحداثا، تضم المجموعة 150 ألف صورة وثائقية لـ67 مصورا صحفيا، إضافة إلى "مجموعة الفنانين الفلسطينيين"، و "مجموعة الفنانين اللبنانيين" التي تروي تضرّر فناني لبنان من الحرب الأخيرة
و دمرت مراسمهم حيث اقتنى فرحات اللوحات كما هي و كما شوهها العدوان لتصبح رسالة في حد ذاتها، ناطقة و شاهدا على العدوان و هي تتمثل خاصة في أعمال للفنانين نور بلوق، يوسف غزاوي و أيمن بعلبكي.
"مجموعة الملصقات" تضم تقريبا 250 ملصقة ذات طابع إنساني تتحدّث عن وقائع معيّنة من تاريخ المقاومة.
"مجموعة الخط العربي" تعكس الطابع الحضاري فهي تحوي أعمالا حروفية و إرثا فلكلوري.
"مجموعة أبو غريب" لفنانين عرب و أجانب جسّدوا الإنتهاك الذي عاشه أسرى سجن أبو غريب.
"مجموعة الأعمال الكلاسيكية" و هي أعمال انسانية لفنانين عالميين أمثال ديغو ريفيرا و جورج روث و هانز هافمن...
"مجموعة الصور الفتوغرافية" و هي مجموعة صور نادرة تصل إلى5000 صورة التقطها مستشرقون زاروا بلاد الشام و المغرب العربي و مصر.
إن كل هذه المجموعات إنما تعبر عن هوس لا يمكن أن يوصف لهذا الرجل الإنسان الذي استطاع أن يكون أكثر من فنان و أكثر من قضية لأنه صار متحفا انسانيا طموحه أن يجمع هذه الاعمال في متحف حقيقي و أن يجد من يتبنى فكرته هذه خاصة في العاصمة اللبنانية التي تشبّه "بباريس الشرق" فلما لا تكون فعلا شبيهة بباريس مدينة الفن و المتاحف. |