هدأت الحرب في صالون الخريف هذا العام، بعد الترددات الفنية الكثيرة للهزّات التي أحدثها اغتيال الحريري عام 2005 وصواريخ تموز عام 2006 في معرضين سابقين. وقد برزت بشكل خاص من خلال الكثير من أعمال الشبان المشاركين في هذا المعرض السنوي، الذي لا تعوم فيه الاتجاهات الفنية وحسب، إنما الأفكار والأحداث والانفعالات، لا سيما الشبابية منها... بدت صالة العرض أكثر هدوءاً، وأقل توتراً، وقد انطفأت النيران في محترفات الفنانين اللبنانيين، وحلّ مكانها القلق والانزعاج من الجدل السياسي،
فهجس بعض الفنانين بتصوير نشرات الأخبار على أنها نشر غسيل اللبنانيين على السطوح. وهذا يتمثل في «جورنال» جان ـ مارك نحاس المليئة بالصراخ والزعيق والأشكال الجارحة، وفي «نشرة سياسية» لريما صعب، حيث النشرة غسيل فضائحي على سطوح المنازل، وفي «انتظار غودو» لتانباك، حيث الانتظار لا هوية له ولا طائفة، له الألم والوجع والسأم الذي يحط جسد الرجل فوق صندوق فارغ، وفي «الأخوة الأعداء» لفاسكين، حيث المواجهة قاسية ومعدنية وكلٌ ثابت في مكانه في وقفة تحدّ لا تكلّ ولا تملّ. وتستمر النشرة ربما في «عصبية» جاسنكا توكان ـ فيان، وفي «مزاريب بيروت» لسمر مغربل، فضلاً عما يرشح من تعبير مؤلم في «لائحة الشهداء» لزينة قمر الدين بدران، و«أكره هذا البلد أحب هذا البلد»، وسوى ذلك من اللوحات التي تقارب حال التمزق التي يعيشها اللبنانيون هذه الأيام ولا يحسدهم عليها أحد. تغيير قد تكون موضوعات المعرض علامة التغيير الأبرز بين صالون وآخر من صالونات الخريف، فالاتجاهات الفنية، والتقنيات، وما إلى ذلك من وصف لتنوع المعرض بين أجيال مختلفة، ثم ما يتبع ذلك من أعداد أعمال وفنانين.. كلها بقيت على حالها، حتى أن لجنة التحكيم حافظت على حضور خمسة من أعضاء لجنة العام الماضي هم: سمير الصايغ، صادق طبارة، جوزيف طرّاب، ألفريد طرزي وعادل قديح، ولم يُضف إليها سوى اسمين اثنين هما جون كارزويل وسمير تابت. قد لا نطلب من متحف سرسق القيام أكثر من ذلك، في ظل الظروف التي يعيشها لبنان، فاستمرارية المعرض هي الإنجاز بعينه، أما التجديد الفعلي في آلية العمل والبحث عن أفكار جديدة تطلق طاقات الشباب وتتماهى وطروحات الأجيال الفنية الجديدة في العالم، فيمكن أن تكون طموح سنوات أكثر هدوءاً، أو تكون ثمرة معارض متخصصة يقيمها المتحف، أو سواه، يحرِّك، من خلالها، الاتجاهات الفنية الجديدة ويؤمن فرصة جديدة لها. جائزة المتحف لهذا العام نالها الفنان شارل خوري، الذي قدم جدارية بجزءين، تنقسم إلى 48 مربعاً، يتضمن كل منها وجهاً من الوجوه التي عوّدنا شارل خوري رؤيتها في لوحاته، وإن كان جمَعَها هنا تحت صيغة موحدة، يحتفظ فيها بحدة التعبير، وتغريب الأشكال، لكن ذلك يتم مع مزيد من آليات ترويض الأشكال من خلال حدود هندسية تتسم بالحدة، في الوقت الذي تحافظ فيه على صيغ لونية على قدر كبير من التآلف. لوحة خوري تتابع سيرة لوحاته القديمة، تأخذ منها انحرافها في اتجاه الخرافة والسخرية والفكاهة السوداء، إلا أن جمع كل تلك الوجوه يضعنا أمام صيغة ملحمية، حيث لكل وجه سيرة، والسيَر تتناسل وتتلاحق إلى ما لا نهاية.
جائزة لجنة الحكم ذهبت للفنان الفوتوغرافي جيلبير الحاج، عن صورة بالغة التبسيط، لوسادة ملونة، يقدم فيها الفنان مثلاً على أن جمالية الصورة ليست نتيجة مطبخ رقمي أو كيميائي أو ضوئي معقد بالضرورة، فالجمال قد يكون وليد البداهة والعفوية وبلاغة التبسيط. أما اللوحة التي حازت تنويه لجنة الحكم فهي للفنان الفلسطيني عبد الرحمن قطناني، صوّر فيها مجموعة من النساء في مخيم فلسطيني، كوفيات وألوان أقمشة ومواد مختلفة ملصقة على الخشب، تخبّئ بين طياتها عنف ناس المخيم ومآسيهم وغضبهم وشيئاً من حيواتهم المرة.
صحيح أن المعرض لبناني الجنسية، لكنه ليس مقفلاً في وجه المقيمين في لبنان، أو الذين يترددون عليه، فسوى الفلسطيني قطناني، هناك العراقي حليم مهدي هادي، الذي نال قبل ثلاث سنوات جائزة المتحف، وهو لا يزال يقدم لصالون الخريف أعمالاً جدارية، تهتم بفنون تزيينية بصرية عموماً، وقد استخدم في لوحته الجديدة «بغداد في الجنة» القماش والأكريليك وأشكالاً زخرفية. الفنان الإيطالي باسكال كارينزا، المعروف بمشاركاته في المعارض التي يقيمها محترف جورج الزعني، ويتردد كثيراً على لبنان، يشارك للمرة الأولى في هذا المعرض، حيث يعرض وجوهاً، قد تمثل ما يراه في ملامح الناس المنذورين للخوف في لبنان.
معرض صالون الخريف استمر طيلة شهر آذار (في صالة «كوكب الاكتشاف» هذا العام بدلاً من متحف سرسق، بسبب أعمال البناء في المتحف)، بمشاركة 76 فناناً، تمّ اختيارهم من بين 132 فناناً تقدموا بأعمالهم، وقد تقدم العام الماضي إلى هذا المعرض 125 فناناً بأعمالهم اختيرت منها أعمال 73 فناناً. إذاً، زاد هذا العام قليلاً عدد المتقدمين إلى الاشتراك، وبالنسبة نفسها زاد عدد المقبولين. أما عن الأجيال فكلها مشارك، إلا أن التفاوت بين الكبار والشبان ما زال حاضراً بقوة، فمن بين الكبار الحاضرين: وجيه نحلة، إيتل عدنان، شوقي شمعون، لور غريب، زافين حديشيان، جميل ملاعب وعدنان المصري... وكالعادة تغيب أسماء فنانين رواد، بل أسماء من الجيل التالي لهم، لأسباب عدة، بينها القرار القاضي بخضوعهم للجنة التحكيمية التي تختار الأعمال المشاركة، وقد اختارتها لهذا العام من بين 273 عملاً مقدَّماً. هذا الغياب يتزايد سنة بعد سنة، ما ينبئ بتراجع مستوى المعرض على المدى البعيد، أو تحوله إلى مجرد معرض شبابي، ما يقتضي التعامل معه بصيغة أخرى، تهتم باستقطاب التوجهات الفنية الشبابية الجديدة، واستدعاء فنانين من نوع مختلف، فهذا العام غابت بعض الأعمال الخاصة بتجهيز الفيديو، وحتى بالتجهيز عموماً، فلم تسعف المعرض صفته الشبابية لجذب فنانين مختصين بهذا التوجه الفني الحديث، اللهمَّ إلا عمل واحد مشترك حمل عنوان «نداء العصفور» لأ لان فاسويان ودانيال قطار. التقنيات الكلاسيكية زيت وأكواريل وأكريليك ومواد مختلطة، هي الطاغية في المعرض، أما عائلة النحت، بما فيها من حجر وسيراميك وفخار، فلم تزد حضوراً على تسعة فنانين، هو رقم العام الماضي نفسه، وإن كان يكرر تراجع هذه التقنية عن العام ما قبل الماضي الذي شهد حضور 14 نحاتاً. تقرب وابتعاد
التصوير الفوتوغرافي هذا العام حاضر بقوة كما الأعوام السابقة، وهو حضور نامٍ، يثبت جدارة أصحابه في فتح الآفاق اللبنانية لهذا الفن، إن من خلال التقاط جماليات الأشكال، أو من خلال الاختبارات والتجريب المحترفي والاستفادة من إمكانيات التحكم الرقمي بالصورة.
في صالون الخريف تتكرر أسماء كثيرة بين معرض وآخر، وتبرز أسماء شابة جديدة تأتي من المعاهد اللبنانية والخارج، وأسماء كبيرة تعفّ عن المشاركة، ويبدي بعض الفنانين الجدد انزعاجهم من رفض مشاركتهم فيبتعدون عن المعرض في سنوات تالية... وهكذا يستمر المعرض في تمثيل الحد الأدنى من الحركة التشكيلية اللبنانية، هو تمثيل غير كامل بالطبع، ومع ذلك يمثل محطة مهمة ليس صعباً على القيمين عليها تطويرها بالإمكانيات المتاحة.
|