إلا أن فضاء يونسكو، وبحسب يوسف عبد المسيح ثروت، في كتابه مسرح اللامعقول وقضايا أخرى ، يمتاز بأنه رتيب ثقيل سخيف، يتحرك بلزوجة، بإيقاعات عاجزة ثقيلة، خصوصاً أن الشخوص تتمظهر عديمة الحيوية، شاحبة السيمياء، مترهلة، كسيحة. إنها تجسد عذاباً يتمطى ببطء عجيب وبلاهة أعجب، ونكوصها في مسار الزمن متأنٍّ، وكأن هذا التأني أمر مقصود، لتشعر بسمّ السأم يتغلغل قي دمها، وبالتالي فإن إنسان يونسكو لا يشعر بمكانته في الحياة، وبين الناس، فتظل مشاعر الخوف التي لا يعرف لها تعليلاً تتقاذفه، تجذبه لزوجة الولادة وقلق الحياة المتلاشية، وحقيقة الموت الماثلة للعيان.
عند استنطاق هذا المفهوم لدى يونسكو، خصوصا في مسرحية الكراسي ، التي غدت نصاً كلاسيكياً لكثرة تناولها من مسرحيين كثر في العالم، لجهة البناء العميق، ولمستويات غير قليلة مضمرة فيها، يلمس المرء الخواء والقتامة، تنوءان بكلكليهما على روحَي الشخصيتين الرئيستين في المسرحية، وهما العجوزان اللذان يكابدان عزلة، ربما مبعثها فشلهما في التواصل الإنساني، وحلول الوهم بأنهما يستطيعان تقديم دور اجتماعي مهم، رغم ضآلة تفكيرهما، إلا أن الرجل الكهل يظن في نفسه منزلة إنسانية رفيعة، بما يمتلك من رؤية إنسانية شاملة تهم البشرية جمعاء، ضمّنها رسالة قرر طرحها أمام أركان المجتمع، ابتداء من أعلى سلطة (الإمبراطور) وانتهاء بالناس العاديين. وكما هو الحال في تصميم شخوص العبث واللامعقول، لا يستطيع هذا الكهل أن يعبّر عن نفسه في طرح رسالته العظيمة ، فيختار خطيباً ليلقيها عنه. وبعد أن يبدأ الأخير بالقراءة يتكشف أنه أخرس، لا يستطيع إيصال الرسالة، لأناس أصلاً غير موجودين على الكراسي الفراغة، التي ظلت تنتظر مدعوين لم يصلوا قط.
يونسكو نفسه، وبحسب حوار مع الصحفي غي دومور في مجلة إكسبرس ، يؤكد أن موضوع المسرحية يتمحور حول لاواقعية العالم، وأن وجود الكراسي فارغة، يعبّر عن الغياب، أو أننا نعيش في وسط عالم يختفي، أو يجب أن يختفي، والعجوزان على الخشبة هما أيضاً غير موجودين في شكل ما، فهما وُجدا ليس لتحريك الكراسي في الفراغ حسْب، وإنما لتحريك الفراغ التاريخي، وهو الموضوع الأساسي للمسرحية.
أعدّ العراقي علي ماجد شبو هذه المسرحية وأخرجها بالاسم نفسه، وقَدمت نادرة عمران شخصية المرأة العجوز، باسم سميراميس ، وأدى محمد الإبراهيمي دور العجوز (شخصية الجنرال)، وعُرضت المسرحية مؤخراً على خشبة المسرح الرئيسي في المركز الثقافي الملكي. وكان نص يونسكو هذا قُدم سابقاً في غير تجربة مسرحية في مهرجانات محلية وعربية، ما يدعو إلى التساؤل: هل هناك جديد في هذه التجربة المسرحية، على مستوى المقترحات الإخراجية، أم إنها جاءت صدى مكروراً لسواها من المسرحيات. بل إن يونسكو نفسه قال في المقابلة المشار إليها سابقاً، إن هناك مخرجين يقدمون الكراسي ، وفق نمطية إخراج على إخراج .
على مستوى الرسائل، كادت المسرحية تخرج إلى الفضاء الواقعي، مغادرةً فضاء النص العبثي، خصوصاً في المعنى الذي كانت تلح عليه اللوحات والمشاهد، ما بين قرع جرس الباب المرة تلو الأخرى، وضمن تطور الأحداث في الحكاية، إيذاناً بقدوم المدعوين، والناتجة عن تصميم أسلوب أداء الشخصيتين الرئيستين، بتقديم انتقادات سياسية مباشرة عبر الحوار الصوتي المسجل الذي يفيد عن سقوط الدكتاتور ونظامه، ما أضعف لغة المسرحية، فبدا هذا الحوار مقحماً حد أن المتلقي وجد نفسه أمام نشرة أخبار غير محايدة وخارج سياق ليسس فضاء العبث، وإنما لغة المسرح. بينما جاءت جماليات غير مباشرة، موظفةً كوميديا، في فضح مهازل شكر الإمبراطور من قبل الزوج، في المشهد الذي بشكره فيه شخصياً على قدومه للحفل، فيبدأ بشكر الدولة والمؤسسات الراعية والداعمة، ويمضي يقول: أنا عبدكم، أنا كلبكم يا مولاي ، إلى غير ذلك من تقديم الشكر في عبارات مشابهة، في حوارات الزوج العجوز مع الإمبراطور.
عمّقَ من مغادرة الشكل في هذا العرض الفضاء العبثي، إلى فضاءات أخرى، وجود هدف واضح المعالم انجمعت خيوط المسرحية حوله، وهو وضع خطة لاستقدام المدعوين، في مكان محدد، ومن ثم إبلاغهم عما هو موجود في الخطاب الذي ضمنته شخصية الزوج من أفكار يطرحها خطيب مفوَّه، بينما في نمط مسرح اللامعقول فإنه ليس له هدف محدد، كما يلخص ذلك ألبير كامو، في مقالته أسطورة سيزيف التي تشخص محنة الإنسانية، فضلاً عن وجود الربط والتركيب المنطقي، في هذه المسألة التي تغيب تماماً عن مسرح اللامعقول والعبث، بينما تنم حكاية دعوة المدعوين في السياق بوجود ربط معقول بين فكرة وأخرى، عدا ظهور الخطيب أخرسَ، لا ينطق بكلمة واحدة نطقاً سليماً، وبالتالي، فإن طبيعة الرسائل السياسية المباشرة، والانتقادات الاجتماعية، والربط والتركيب في شكلها.. كل ذلك أخرج مسار أحداث المسرحية من فضائها العبثي.
أما على مستوى الرؤية الإخراجية، فقد طرح شبو مقترحات جديدة في النص بإفادته من الملحمة السومرية جلجامش ، باستقدام شخصيتَي جلجامش التي جسدها حمد نجم، وأنكيدو (بلال الرنتيسي)، ودمجهما في نص العرض، لجهة تعميق خيبة الإنسان في الوجود، بتأكيد فنائه، من خلال الاشتغال على ثيمة موت أنكيدو، فغدا ظهور هاتين الشخصيتين في المستوى العلوي من المسرح، إضافة إلى حوارات فتاة الحانة التي قدمتها شقيقة الطل، بمثابة الفضاء الآخر المتنوع في سياق أحداثه، ولكن بناءه كان يلح على ذات المعنى العام للعرض، بحيث أراح المتلقي من إيقاع تداعيات يونسكو الحوارية، ولكن الرسائل الوجودية في هذا المستوى العلوي كانت أبلغ من حيث وصولها إلى المتلقي.
عمقت إيحاءات ومعاني جماليات السينوغرافيا المشهدية التي صممها نادر عمران، من ديكور وأزياء وإضاءة، من ظهور المناخات والأجواء التي اندفعت الشخوص فيها، خصوصاً وجود بحيرة الماء وفق شاشة عرض، في العمق الأيمن للمسرح، والبيت الذي يعيش فيه الزوجان، كما برعت بشرى حاجو في تعميق العمر الزمني للشخوص، خصوصاً في استعمال الماكياج.
قد يختلف المتلقون لاتجاه الدلالات التي أنتجتها الأنساق السمعية والمرئية لهذه المسرحية، نحو صفة اتجاهاتها العبثي واللامعقول، أو غيره من الاتجاهات الجمالية الأخرى، لفضاء متخيل صاغه خيال اجتماعي خلاق لأداء شخصيتي العرض الرئيستين، إلا أن هؤلاء المتلقين، وعلى الأغلب وبعد تفكيكهم لأبنيتها، ومن ثم إعادة تركيبها وفق ظاهرة التواصل، المنشأ على أنظمة دلالية، تتأسس على الخلفيات الثقافية والتجارب الحياتية، من جهة، وشيفرات العرض، من جهة أخرى، يتفقون على أنهم كانوا أمام فرجة ضمت المتعة والرسائل في آن.