كان يوسف الناصر معنيا فيما مضى بنوع متقشف ونادر من الوصف، تكشف عن ذلك الولع الاستثنائي أوراق الأشجار التي لا تزال تحتفظ بالكثير من غنائية مائها السري. ولأنه عاش حياته الحقيقية كلها منفيا فقد كان يجد في فكرة العودة إلى البيت نوعا من المآل العاطفي والوجودي. وهو ما يمكن اعتباره نوعا من الحنين الذي غالبا ما يجد المنفي مشقة في التعبير عنه، وإن اختلفت جمالية وقيمة ذلك التعبير الناقص من إنسان إلى آخر. حنين هو أكثر قربا من تمثل الرجاء منه إلى محاولة الانجرار وراء اغراء ذلك الرجاء. بمعنى أن الرسام كان يعيد انتاج الوطن البعيد في رسومه مثلما يفعل بالزهرة أو بابتسامة فتاة عابرة ينوي اللحاق بأثرها الذي تسلل إلى أعماقه من غير أن يفكر باللحاق بها. غير أن الحرب التي دمرت بلده عام 2003 وضعت حدا لكل محاولة يبذلها من أجل تهذيب الطبيعة. صارت الطبيعة تنأى بكل ترفها فيما البلد الذي أحبه الرسام وعاش حياته من أجل أن ينأى به بعيدا عن فزع مواطنيه كان في حاجة إلى نوع مختلف من النظر. بسبب صدمة ما جرى ربما احتاج الناصر إلى وقت طويل لكي يستعيد ثقته بالرسم. أقول ربما وأنا أدرك ان هذا الرسام يتبع انسانيته إلى حافاتها دائما.

 

بالأسود والأبيض انجز الناصر لوحات عملاقة تصور بشاعة الحرب. ولأن ضحايا تلك الحرب هم أهله فقد كانت وجوههم تظهر بتلقائية بين خطوط ومساحات هلعه. لا تظهر تلك الرسوم أي قدر من الشك أو التردد في ادانة الجريمة، غير أنها تستلهم العنف لتقول شيئا مختلفا عن ذاتها. لا تكتفي تلك الرسوم في أن تكون شهادة لما يحدث من حولها. فحسب بل وايضا تود التصريح بعبث العالم الذي تتوق إلى استخراجه من مناطق مجهولة. لقد حدث الانفجار الكوني الذي أصاب أثر منه كل شيء. هنا الرسم لا يحاول استرداد ما فقد أو التعويض عنه، بل يمتحن قدرته على خلق كون بديل. وهو ما يمكن أن أسميه بالحنين المضاد الذي تضعنا تلك الرسوم في جوهر التفكير فيه.
3

ربما لا نعرف إلا في الأوقات العصيبة أن ما هو ضروري للرسم يفعله الرسام الحقيقي. وهو ما فعله يوسف الناصر في (مطر أسود). ترف أن يكون الرسام موجودا في رسومه قد تحقق في تلك الرسوم من غير أن يمتزج ذلك الفعل بأي نوع من الخيال النرجسي. لقد اتاحت تلك الحرب بصيغتها ما بعد الحداثوية للرسام أن يتسلل إلى ألم بلاده، أن يكون موجودا في لحظة الألم لا ليكون ضحية فقط بل ليكتسب خبرة ألم مباشرة أيضا. وهكذا يمكنني أن أجازف بالقول أن الناصر هو واحد من أهم الرسامين العراقيين الذين الهمهم خراب بلادهم موقفا جماليا مضادا للجمال المتاح بمعناه التاريخي. نعثر في تلك الرسوم على الرسم كله غير أننا في الوقت نفسه ننحاز إلى ارتباكنا ونحن نشعر أن لحظة النظر تلك لا تهبنا إلا صورا ناقصة. هذه الرسوم تسبب لنا هلعا. ولكنه الهلع الضروري الذي يدعونا إلى النظر مجددا دائما.

 

 لقد سعى الرسام إلى توضيح شيء من ذلك الهلع من خلال ما الصقه على سطح لوحاته من صحف بريطانية تصف الحياة في شكلها الطبيعي فيما كانت صفحات تلك الصحف الداخلية ممتلئة بقبح ما يجري في تلك البلاد البعيدة، التي هي بلاده. كما لو أن الرسام أراد من خلال تلك الشهادات ان يهذب عاطفته بما يقوله الآخرون عن ألمه. ولأن الألم لا يوصف فقد اختار يوسف الناصر أن يمزج كل ما ظهر منه في أوقات سابقة بما لم يظهر منه بعد ليصنع منه المادة التي يستعملها في انتاج رسومه. سيكون عليه دائما أن يرتجل صفته: فقيدا ويتيما ومنفيا غير أنه يرفض أن يكون شاهدا. فتلك الرسوم التي رأيتها وهي جزء من مشروع كبير لم تكن شهادة على ما جرى في العراق من جريمة بل هي رد الفعل الذي يقاوم تلك الجريمة. وهي الفكرة التي تنبثق من مفهوم جذري لوظيفة الرسام بما يجعل تلك الوظيفة تتعلق بنوع من الوهم الجميل الذي يعيد صياغة الواقع. إن المزق التي يجمع يوسف الناصر فتاتها من الواقع لا تشكل إلا الخامات الأولية التي تلهمه تقاطعاتها صورا مستخرجة من عالم خفي. فما يخلقه الرسام لا يصدر عن الواقع دائما. ما معنى ان تتكئ سلالم على جدران لا هوية لها؟ ما معنى أن تفلت الزهرة من شجرتها لتخبئ جزءا من المشهد وراءها؟ يتبع يوسف الناصر رؤاه وما من موعظة أخرى في انتظار الفجر. هناك كوكبان اصطدما فيما الرسام يحاول أن يفر ببلاده بعيدا. لا ينفع الألم وحده. سيكون علينا دائما أن ننتظر ما يفعله الرسم يا يوسف.