حظي الجمهور السوري بفرصة نادرة للاطلاع على جانب جديد من حياة التشكيلي السوري الشهير فاتح المدرس، بعد حوالي عشر سنوات على رحيله، عبر مشاهد مصورة عرضت للمرة الأولى في دمشق، وهي جزء من المادة التي شكلت لاحقا فيلما عن المدرس. المادة المصورة التي عرضها المركز الثقافي الفرنسي في اطار نشاطات "نادي السينما" وصلت مدتها قرابة الساعتين وهي جزء من المادة الكاملة -11 ساعة- التي انجز منها ثلاثة من اهم المخرجين السوريين هم عمر اميرلاي ومحمد ملص واسامة محمد، فيلما عن المدرس اواخر التسعينات. وتلا العرض ندوة حضرها المخرجان عمر اميرلاي واسامة محمد والتشكيلي السوري احمد معلا، وشهدت نقاشا واسعا حول تجربة المدرس والعرض الاستثنائي. واشار اسامة محمد الى ان عرضا كهذا " نادرا ما يحدث" مضيفا "انه فرصة لمن يشاهد الفيلم ليقوم بالمونتاج الذي يريده، ويحكم على "مدى اهمية" هذه المواد التي ذهبت الى الخزانة". وتطرق المدرس في الشريط الذي عرض الى تجربة الفن التشكيلي في العالم العربي التي قال انها لم يمض عليها الوقت الكافي "لبناء اسس رصينة". ولكن رغم ذلك فهو يلاحظ ان "الفن التشكيلي السوري" كان يكون ملامح خاصة به بعد نحو اربعين عاما من ظهوره، في الوقت الذي كان فيه الفنانون في بلدان عربية اخرى مثل الاردن والمغرب العربي "تلاميذا من الدرجة الثانية في مدارس "فنية" اجنبية".
وعندما سئل عن علاقة الفن بالتجارة، تحدث عن "البراعة" في العمل الفني، معتبرا انها "ليست فنا"، وقال ان الفنان عندما يشتغل ببراعة كي يبيع اكثر "يخلص من اللوحة شيء من روحانيتها". وعند الحديث عن تقليد الفن، ونسخه، اشار المدرس الى محاولات عابثة قام بها البعض لتقليده وتراجعهم، وذكر حادثة طريفة في هذا السياق اذ قال "كانوا يأتون لي بلوحات مقلدة، كنت اصلحها لهم، واعيدها اليهم بعد ان يدفعوا ثمن اصلاحها".
ورسم المدرس علاقات بين شغله التشكيلي واساليب فنانين عالميين، وقال "ليس لدي جرأة بيكاسو"، ورأى ان عمله قريب من تجربة فان غوخ ويشترك معها في "عبادة الترابط اللوني في الطبيعة" التي اعتبر المدرس انه كان يحوزها لكن يستعملها بلمسات مختلفة. ورأى المدرس ان القرن العشرين هو "عصر العبيد"، واضاف "لان الانسان يشعر بحريته وهو عبد". وتعليقا منه على عرض المادة المصورة من فيلم المدرس، اشار الفنان التشكيلي احمد معلا الى سعادته الاستثنائية لان القيمين على الفيلم اتاحوا رؤية ما يشبه مسودة القصيدة، واضاف "رايت المدرس بحالات متنوعة، مرة ضعيف ومرة استاذ ومرة كان يمثل".
اما عمر اميرلاي الذي كان احد صناع الفيلم، فقال عن خطوة العرض انها "ليست مستحبة" بالنسبة لمعظم السينمائيين، وشبه ذلك بتمكين شخص من دخول مطبخ ليتمكن من رؤية فوضى ترتيبه وروائحه. وتعليقا على بعض الاراء التي اشارت الى "تناقض" في حديث المدرس في المادة الاصل للفيلم، اعتبر اميرلاي انه في 11 ساعة تصوير سنجد انه "حتى العبقري لا بد سيناقض نفسه في الكلام، وينسى ويبحث عن الكلمة المناسبة".
وتعليقا على علاقة فاتح المدرس بالسياسة، قال اميرلاي "نحن في بلد مفخخ بالسياسة، لذلك يمكن ان يخطئ واحد مثل فاتح، ويظن انه من موقع معين يمكنه ان يصلح شيئا"، في اشارة منه لمسألتين، الاولى تتعلق بشغل المدرس منصب نقيب الفنانين في سوريا لسنوات، والثانية تتعلق بقيام المدرس برسم لوحات لوزارة الداخلية ومشروع جمع فيه عدة تشكيليين آخرين لرسم لوحات توضع في مؤسسات رسمية لتجميلها. لكن اميرلاي اكد ان المادة التي شكلت الفيلم "45 دقيقة" ترتكز على الجانب الابرز الذي تجلى في الحوار مع المدرس وبان المرجعية و"القيمة الاساسية عند المدرس كانت الجمال".
واشار اسامة محمد الى ان ما يعرضونه هو "وثيقة عن شخص استثنائي في تاريخ البلد، وكان لنا الحظ بان نتمكن من عرضها لانها ليست ملكا لاحد منا "..." هذه وثيقة نتشاركها". وتم انجاز فيلم المدرس في اواخر تسعينات القرن الماضي، وكان يخطط صانعوه لان يكون جزءا من سلسلة تضم عشرة افلام عن اعلام الثقافة السورية، الا ان هذا السلسلة توقفت على انجاز عمر اميرلاي لفيلمين عن المسرحي سعد الله ونوس وآخر عن نزيه الشهبندر احد رواد السينما السورية. وولد المدرس في حلب سنة 1922 وتوفي في دمشق سنة 1999، وهو واحد من اهم اعلام الفن التشكيلي في سوريا، حاز العديد من الجوائز المحلية والعالمية وجابت معارضه في العديد من المدن الاوروبية والولايات المتحدة واميركا اللاتينية، وتحول مرسمه في دمشق الى صالة عرض فنية تحمل اسمه. |