في معرضه الأخير قدم الفنان الدكتور محمد نبيل عبد السلام تجربة جديدة عبر خلالها عن علاقة الإنسان بالحرية برؤيته الخاصة التي تناولها في مجموعة من اللوحات قام بعرضها مؤخرا في أتيلييه الإسكندرية تحت عنوان "تراكيب". قامت هذه التجربة على استخدام التقنيات الرقمية في تكوين عدد من الأشكال الهندسية المتداخلة والمختلفة الأشكال والأحجام, والتي تتشابك فيما بينها لتنتج نسيجاُ واحداً يسيطر على فراغ العمل الفني فيكسبه أبعاداً تشكيلية وبصرية متعددة, وقد يتخلل هذه الأشكال الهندسية عدد من الصور الفوتوغرافية التقطها الفنان بواسطة كاميرا رقمية لبعض التأثيرات الموجودة في الحياة المحيطة بنا, والتي يغلب عليها صور النباتات والأسلاك الشائكة والتأثيرات المتراكمة على الجدران, وكذلك قصاصات الورق اليدوي والكتابات. استخدم الفنان نبيل أيضا عدد من التأثيرات المتداخلة التي قام بتنفيذها بواسطة التقنيات التقليدية وتحويلها بعد ذلك إلى صور رقمية حتى يتسنى له مزجها بباقي عناصر التصميم, حيث أن هذه التأثيرات تمثل عدداً من الخطوط المتقاطعة والبقع اللونية. وتتداخل تلك الصور فيما بينها لتنتج قيماً تشكيلية مجردة تخلو من المسميات اللفظية للعناصر المكونة لهذه الصور, وإن كانت تظل محتفظة ببعض من صفاتها الشكلية في بعض أجزاء من العمل الفني وذلك تبعاً لرؤية الفنان في تناول كل عمل على حدا. يتداخل مع هذه الأشكال الهندسية الشفافة مساحات مصمتة سوداء اللون تعمل على تأكيد العلاقات الهندسية المتداخلة والمتشابكة مع الصور الفوتوغرافية, كما تظهر مسطحات ملونة بأحد الدرجات اللونية الأساسية تتشابك مع تلك المساحات الأحادية اللون المنفذة بدرجات الأسود تعمل على إثراء الرؤية البصرية للأعمال, كما تعمل هذه المساحات الملونة على تحديد الشكل العام للعلاقة بين المسطحات السوداء والأشكال الهندسية المتداخلة ذات الدرجات الرمادية, وفي بعض الأحيان تلعب هذه المساحات الملونة دور البطولة لتأتي المسطحات السوداء والأشكال الهندسية كعناصر مكونة لخلفية العمل. وقد حاول الفنان عبد السلام جاهداً أن تكون هذه التجربة امتداداً لأعماله المنفذة بواسطة طريقة الحفر والطباعة البارزة, وذلك مع مراعاة اختلاف الوسيط الطباعي, وهو الأمر الذي مكنه من الحصول على شفافيات متعددة ناتجة عن تداخل الأشكال الهندسية, وهذه المسطحات الشفافة يصعب – إن لم يكن من المستحيل – الحصول عليها بواسطة تقنيات طريقة الحفر والطباعة البارزة, إلى جانب القدرات اللانهائية للتقنيات الرقمية في عمليات التحكم في الدرجات اللونية ودمج الصور الفوتوغرافية .. وغيرها.
يقول الفنان "مما لا شك فيه أن الشكل الهندسي يحمل في طياته الكثير من القيم التشكيلية والجمالية التي دفعت بالكثير من الفنانين إلى استخدامه في أعمالهم الفنية, وبطبيعة الحال فإن هذا الاستخدام قد اختلف من فنان إلى آخر تبعاً لمذاهبهم الفنية وأفكارهم الفلسفية ورؤاهم التشكيلية, وعلى هذا فقد اعتمدت في تجربتي على بحث إمكانية المزاوجة بين الشكل الهندسي والشكل العضوي, وذلك من خلال إطار تجريدي تخلو فيه الأشكال من مسمياتها لتنصهر في بوتقة التشكيل البصري للعمل الفني". نجح الفنان في تحقيق قدر من التوازن بين عناصر التصميم، وذلك من خلال الربط بين الدرجات الظلية للعناصر واتجاه حركتها, حيث قام بتوزيع درجات الأسود والرمادي على أرضية العمل البيضاء, وربط هذا مع اتجاه حركة العناصر التي يتضمنها العمل, فنجد العناصر الأساسية في العمل تأخذ عدد من اتجاهات الحركة تعمل على تحقيق قدر من التوازن البصري مع الدرجات اللونية المستخدمة في تنفيذها. كما حرص الفنان على أن تكون جميع الصور المستخدمة في هذه التجربة ناتجة عن استخدامه الشخصي للكاميرا الرقمية, وذلك حفاظاً على حقوق الملكية الفكرية والتي تمنع الفنان من استخدام صور أو تصميمات من تنفيذ فنانين آخرين – سواء كان ذلك بشكل كلي أو جزئي – دون الحصول على تصريح بذلك, كما إن الاستعانة بالعناصر المأخوذة من أعمال فنية لفنانين آخرين تضعف من قيمة العمل الفني، حيث يتوقف دور الفنان في هذه الحالة على مجرد توظيف عدد من التفصيليات المقتطعة من أعمال فنية أخرى، مما يفقد العمل واحده من أهم مميزاتها ألا وهي الخصوصية وذاتيه الفنان, وإن كان بإمكاننا أن نستثني بعض الحالات التي من الممكن أن يستعين فيها الفنان بعناصر من صور لفنانين آخرين كما في حالة أن يكون مضمون العمل يتعلق بحدث من الصعب أن يقوم الفنان بتصويره بنفسه وما إلى ذلك. تم تنفيذ هذه التجربة باستخدام الإصدار التاسع من برنامج ( الفوتوشوب Photoshop CS2), كما تمت طباعة هذه الأعمال بواسطة الطابعة (HP Design jet 500 Plus) وهي طابعة رقمية تعمل بتقنية نفث الأحبار, وتستخدم أربعة عبوات للأحبار الصبغية وهى الأزرق (Cyan) والأحمر (Magenta) والأصفر (Yellow) والأسود (Black), حيث تمتاز هذه الطابعة بدقتها المتناهية وقدرتها على التمييز بين الدرجات الظلية المتفاوتة والمتقاربة, ومن أهم عيوبها عدم قدرتها على طباعة درجات اللون الأحمر على أنواع الورق المصنعة من الألياف القطنية فتتحول إلى درجات بنية اللون, ولكنه يمكن التغلب على هذه المشكلة باستخدام أنواع من الورق المغطى بطبقة الحماية (Coated) أو باستخدام أنواع الورق ذات السطح الأملس المصقول. بعض أعمال المعرض عبارة عن تصميمات عرضية المقطع، من بينها عمل منفذ بدرجات الأسود والأبيض, يمثل حدة الصراع بين عدد من الكتل ذات الدرجات الظلية المختلفة, حيث تسيطر الكتل السوداء الضخمة على فراغ العمل فتمتد من أسفل اليسار إلى أعلى اليمني, يتخللها عدد من الأشكال الهندسية المضيئة المنفذة بدرجات الأبيض والرمادي الفاتح, وقد تعمل هذه الأشكال على تحقيق قدر من التوازن مع الكتلة السوداء، وذلك من خلال التضاد اللوني والتضاد في اتجاه حركة الأشكال, وتأتي خلفية المشهد محمله بعدد من التأثيرات المتداخلة التي قام الفنان بتنفيذها بواسطة التقنيات التقليدية، ثم قام بتحويلها إلى صور رقمية حتى يتسنى له مزجها بباقي عناصر التصميم. وفي عمل آخر عبارة أيضا عن تصميم عرضي المقطع منفذ بعدد من الدرجات اللونية المختلفة غلب عليه درجات الأسود ومثل انطلاقا لعدد من الأشكال الهندسية في الفراغ الداكن بحثاً عن الحرية, ورغم هذا الانطلاق إلا أنها لا تزال مرتبطة بجذورها التي تبدو ككتله مضيئة في يسار العمل يمكنها احتواء جميع الاتجاهات, وقد أكدت فكرة هذا العمل على أن السعي نحو الحرية لا يعني التخلي عن القيم الفكرية المتأصلة بداخلنا. ويتكون العمل من كتله ضخمة تسيطر على يسار التصميم وتتميز بدرجاتها اللونية المتعددة، كما يتخللها عدد من الدرجات المضيئة, بينما يشغل اللون الأسود باقي فراغ التصميم, وإن كانت تتخلله درجات اللون الأحمر في يمين العمل, كما يحلق في فراغ اللوحة عدد من الأشكال الهندسية التي تتكون من عدد من المثلثات المتداخلة والمختلفة الأشكال والألوان, وقد استخدم الفنان هذه المثلثات في توزيع عدد من الدرجات اللونية التي تعمل على تحقيق التوازن مع باقي عناصر التصميم. البعض الآخر من الأعمال عبارة عن تصميمات طولية المقطع، من بينها عمل منفذ بدرجات الأسود والأبيض مع وجود قوي للون الأزرق الذي يشغل الثلث العلوي من التصميم, حيث أشار الفنان أن "هذا العمل يمثل التطلع نحو المجهول ومدى قدرتنا على التعايش مع ذلك المجهول الذي نتطلع دائماً إليه وإن كنا لا نستطيع معرفته, ويبدو ذلك من خلال الدائرة التي تحلق في الثلث العلوي من التصميم وتمثل انعكاسا لما أسفلها من عناصر, وهي تكاد تقترب من الثلثين السفليين, والذي يشغلهما بناء تراكم فيه العناصر المتداخلة, كما تغطيه عدد من الشفافيات الهندسية المختلفة الدرجات الظلية والتي تزداد قتامه كلما اتجهت إلى أسفل, وإن كان يعلوها حيز مضئ يستقر بشكل أفقي في مواجهة تلك الدائرة التي تمثل المجهول". يتناول الفنان في عمل آخر علاقة الإنسان بالمجهول الذي يسيطر على رؤيته للأمور, وهو الأمر الذي يصيب الإنسان بحاله من ضيق الأفق, كما ظهر الصراع واضحا في لوحة أخرى بين كتلتان من الأشكال الهندسية المتداخلة, حيث تنطلق إحدى الكتل من أرضية التصميم السوداء اللون, بينما تضغط عليها كتله أخرى تمتد من أعلى التصميم لتنشأ بينهما علاقة صراع, وقد يزيد من حدة هذا الصراع درجة اللون الأصفر التي تمثل خلفية العمل والتي تتشابك مع عناصر التصميم بعدد من الخطوط الهندسية الحادة. وفي المقابل نرى الفنان يحقق قدر من الهدوء في لوحة أخرى ليقلل من الحدة الناتجة عن حركة الأشكال الهندسية داخل التصميم, ويمثل هذا العمل الحرية ككتله مضيئة تشع من خلال عدد من الكتل الداكنة التي تضم عدد من العناصر وتعوق الاتجاه نحو الحرية. كما استخدم الفنان في بعض اللوحات العديد من العناصر الهندسية المتداخلة التي تحمل درجات ظلية متباينة إلى جانب استخدامه لعدد من الملامس والتأثيرات المتداخلة في العمل. |