أقام جاليري "جوجان" بالزمالك مؤخرا معرضا جديدا لأعمال الفنانة القديرة تحية حليم التي تعد من الرعيل الثاني لفناني مصر، والتي نالت شهرة كبيرة في الوسط الفني منذ فترة طويلة، وحازت على تقدير ومحبة الجميع.
ولدت الفنانة تحية حليم في السودان في التاسع من سبتمبر عام 1919، وتوفيت في يوم 24 مايو عام 2003. في صباها تعلمت داخل القصر الملكي حيث نشأت مع والدها كبير ياورات الملك فؤاد، ثم درست في المدارس الفرنسية بعض الوقت، وبعد ذلك درست الرسم على يد أساتذة فنانين.
استعرض هذا المعرض نحو 92 لوحة من أعمال الفنانة، والتي لم يعرض أغلبها من قبل، كثير منها اسكتشات رسمتها "تحية" لموضوعات مختلفة، منها الموديلات "نيود" التي رسمتها في أوضاع مختلفة تعبر عن مدى براعتها في رسم الموديل، كما رسمت الأشخاص بحركاتهم الطبيعية المتنوعة مهتمة بتعبيرات وجوههم، وتناولت أيضا موضوع الأمومة في بعض الاسكتشات، واهتمت برسم الطبيعة والمباني الريفية القديمة، كما سجلت التراث المعماري في بعض الدول التي قامت بزيارتها في اسكتشاتها التي عبرت عن ملامح العمارة لكل مدينة، ومن بينها فرنسا التي عاشت فيها فترة استغلتها كلها في دراسة ورسم المناطق الفرنسية المختلفة، والتي من أهمها رسم الموديل في دراسات دقيقة ومميزة.
يقول الفنان طارق زايد: هذا المعرض إحياء لذكرى الفنانة الرائدة تحية حليم وامتداد لعطائها الفني الذي دام سنوات وسيظل لسنوات طويلة يستمتع به ويتعلم منه الكثيرون، ورغم أن الفنانة تربت في قصور وأقامت في أوروبا لسنوات طويلة إلا أنها مرتبطة بجذورها المصرية، فنجدها تتناول في معظم أعمالها الحياة الريفية والشعبية والوجوه المصرية الصميمة.
تحية حليم وفي مرحلة اسكتشات الموديل العاري نجحت في أن تصل بمستوى الاسكتش إلى العمل الفني القائم بذاته وليس مجرد عمل تحضيري للوحة أساسية ملونة، فنلاحظ أن الوجوه والموديل التي استخدمتها لشخوص مصرية، كما أنها اهتمت بدراسة حركة الجسم في الأوضاع الأساسية التي يدرسها أي شخص مبتدأ، إلا الأوضاع التي تبتكرها لتصل بجماليات الجسم البشري بخط مفرد قوي يصل لقوة خطوط الفن الفرعوني؛ لأن الفن الفرعوني لم يكن مهتما بالتفاصيل بقدر اهتمامه بالخط المفرد، فهي تأثرت بالفن الفرعوني وليست مقلده له.
يضيف: أما عن الأعمال المعروضة فأغلبها اسكتشات لم تعرض معظمها من قبل؛ وذلك لأن أعمالها الزيتية قد بيعت مجموعة كبيرة منها في حياتها وبعد وفاتها، كما أنها كانت تهدي الكثير من أعمالها.
أما الفنانة منى حسن مؤسسة القاعة فقد استعرضت مراحل الفنانة تحية حليم الفنية قائلة: تمتلئ الفنان القديرة تحية حليم بالحب، الذي كان عطاءها بغير حدود لكل من كان قريبا أو بعيدا منها. كانت أول دراسة لها على يد الفنان السوري يوسف طرابلسي حيث التحقت بمرسمه سنة 1939، فلقنها أصول الرسم الأكاديمي ولكنه بعد عامين هاجر إلى كندا، وبعد ذلك واصلت مع الفنان اليوناني اليكوجيروم، الذي كان يساعده في ذلك الوقت الفنان حامد عبد الله - لأنه كان يجلس على كرسي متحرك - .
تحية حليم وبعد وفاة جيروم لم يبق لتحية إلا حامد عبد الله، فأصبح الصديق الذي يكبرها بعامين، وهو الذي انتقل بها من مجتمعها إلى مجتمع الفلاحين والأحياء الشعبية. وبعد فترة تزوجا وكانت تحية في حاجة إلى أن تقفز من الارستقراطية إلى أعماق الحياة الشعبية والريفية.
تواصل: وخلال العام الأول من زواجها أقاما معرضا مشتركا في الإسكندرية، كما كان المعرض الأول لها في القاهرة عام 1943، ثم طلقت تحية من حامد عام 1946؛ وكان أحد أسباب طلاقهما أنه حاول التعديل والإضافة في لوحة من لوحاتها، وبعد فترة ألحت أمها عليها للرجوع إليه فوافقت وسافرا إلى فرنسا لمدة ثلاثة سنوات، وفي تلك السنوات استغلت تحية كل دقيقة في الفن ولم تترك شارعا أو حيا أو مقهى إلا ورسمته، وقد أقامت مع زوجها معرضا عن هذه الفترة من حياتها، وبعد فترة انفصلت عن زوجها مرة ثانية وعادت إلى القاهرة وأعلنت أنها تزوجت الفن. وبدأت مرحلة جديدة عندما اكتشفت أسلوبها الخاص، حيث أقامت عدة معارض وشاركت في مسابقات عديدة نالت فيها جوائز وميداليات ذهبية.
تتابع: بدأت السفر إلى النوبة لتخوض مرحلة جديدة من مراحلها بعد اقتراح "كليوباترا شحاتة" زميلتها في الدراسة، فأسرعت بقبول الفكرة وذلك لأن هذا يذكرها بجو لوحاتها أثناء زواجها من حامد عبد الله. وقد تعايشت مع أهل النوبة وبيوتهم إلى أن قرر وزير الثقافة في هذا الوقت "ثروت عكاشة" تنظيم رحلة ضمت فنانين وأدباء وموسيقيين لمدة شهر كامل سجلوا فيها كل ما يرونه ويسمعونه، وكانت هذه الرحلة بالنسبة لتحية رحلة مليئة بالانفعالية والجمال كونت خلالها مخزونا قويا، وفي هذه الأثناء بدأت رحلة مرضها بالروماتويد وهو مرض يصيب العين ولم يكن له علاج، حيث تكفلت الدولة بعلاجها. فكانت وقتها تحارب المرض وتنتصر عليه بجهدها ورسمها. وشفيت عيناها، ولكن بعد عدة سنين هاجمها المرض مرة أخرى في يدها، وبعزم وإصرار لم تتوقف أبدا الفنانة تحية حليم عن الرسم. وأعطت كل حبها ومشاعرها له، وأصبحت مرموقة في مصر وخارجها.
تحية حليم بينما قال الفنان كمال الجويلي رئيس الجمعية المصرية للنقاد: أنني تابعتها منذ البداية. وكان ذلك في أحد معارض حامد عبد الله في قاعة أسمها "آدم" في شارع قصر النيل قريبا من جامع "الكخيا"، وكانت تجلس على مقعد في مدخل القاعة حيث أخذت انطباعا بأنها طالبة بالمرحلة الثانوية، وقد كانت ترتدي ثوبا يجمع بين اللونين الأزرق والأبيض، وحين قلت لها ذلك بعد سنوات صاحت أنني لم أكن صغيرة ولا طالبة فقد كان هذا ثوبا من قطعتين، وأثرت على ذلك، ثم توالت رؤيتي لها حين زرتها في المرسم المشترك بينها وبين حامد عبد الله الذي تزوجها في ذلك الوقت، وكان المرسم مطلا على المتحف المصري، وشاهدت العديد من المعارض لهما حتى سافرت إلى فرنسا حيث درست في البداية هناك بمعهد معروف، واستمرت لسنوات هناك حتى عادت منفصلة عن زوجها على يد الدكتور ثروت عكاشة حين كان سفيرا لمصر في باريس، وخلصها من زوجها الذي ارتبط بزوجة أوروبية في ذلك الوقت، ولم تتزوج بعد ذلك، بل تفانت في إبداعها الذي كان غذائها اليومي تحيط بها قططها التي عشقتها في بيتها بالزمالك.
يتابع: وظللت أتابع أعمالها حتى ألم بها المرض لكني نجحت في عودتها إلى الحياة الفنية بإقامة العديد من المعارض بعد ذلك، ومن الطريف أني حين حاولت أقناعها بالعرض أوضحت أن ما لديها من أعمال كبيرة هو عدد قليل فنبشت معها في صناديق أوراقها وأخرجنا مئات "الاسكتشات" التي كان آخرها ما عرض في قاعة جوجان حيث ورثتها أسرة شقيقتها، والغريب في تلك الفترة الأخيرة التي أحدثت صحوة لها ورسمت خلالها أعمالا قليلة بسبب الضعف الذي استبد بيدها لكنها كانت تقاوم، ولشدة الإقبال على أعمالها حاول البعض تزوير العديد من رسومها مما أغضبها بدرجة عالية حتى أنها استدعتني لأبدي الرأي في مسألة التزوير وطرحت أمامي عشرات الرسوم لتقول أن هذه ليست أعمالي الأصلية، ولم استطع تكذيب ذلك إلى حد أنها قالت لي خذها بدلا من أن أمزقها.
يواصل: واستمر المرض يعذب جسدها ومشاعرها فكلما كنت أزورها تطرح أمامي كميات عديدة من الأدوية يقدمها إليها أطباء من محبي فنها يعالجونها بلا مقابل فترد الجميل بإهداء بعض ما تبقى لديها من لوحات إليهم، كنا نتبادل الحديث يوميا بالتليفون فتسأل عن بناتي وأبني قائلا قبل لي فلانة وفلانة وفلان يوميا إلى حد أنهم اعتبروها أما ثانية، وكانوا يزورونها باستمرار.
وخلال تلك السنوات العريضة ومنذ البداية لاحظت إرهافها ورقتها وشفافيتها منعكسة على الورق والتوال في أعمالها الزيتية والألوان المائية، أحسست أنها ترسم بقلبها كأنما تغني وتغرد وتشعر بأن الفن هو غذائها. وأذكر أنها قالت لي ذات يوم أن أسرتها لاحظت منذ طفولتها حين كانوا يعيشون في بيت كالقصور أنها كانت تستلقي على الأرض وتتأمل السقف برسومه وزخارفه المبهرة ولا تتوقف عن الرسم، فلاحظوا موهبتها منذ البداية وشجعوها عليها حيث نمت في هذا الطريق. وشيئا فشيئا اندمجت في الحركة التشكيلية وأصبحت علما يبحث محبو الفن على أعمالها التي أصبحت نادرة إلى اليوم. |