أحمد جاريد تشكيلي يستغيث بالكتابة حين يستــــــعصي اللون
البشاعة هي نوع من العنف ونحتاج إلى كثير من الجمال لكنس كل هذا القبح
أحمد جاريد من قامات الفن التشكيلي الحديث في المغرب والعالم العربي وأوروبا. عرضت أعماله في عدد كبير من بلدان العالم سواء عبر معارض جماعية أو فردية. هو شاعر يستغيث بالقصيدة حين يستعصي اللون، عمل أستاذا لفلسفة الفن بمدرسة الفنون الجميلة بالدار البيضاء، وهو مدير تحرير مجلة ''زنّار'' للفن المعاصر والتراث البصري التي تصدرها وزارة الثقافة في المغرب. عنه قال الكاتب والناقد التشكيلي المغربي حسان بورقية: ''هل يمكن القول إن جاريد فنان تجريدي؟ أعرف أنه لا يتوقف عند تفصيل معين أو يحرص على حكاية ما في عمله.. وأعرف أيضا أنه يحرص على ترتيل كوني ينشد الوجود وينصب الفخاخ لهذا النشيد بصبر ودقة يعريان العالم باندفاع وعناد. في كل عمله كما يعرفه غيري، يقطع جاريد الطريق على ''الظلام''، يلتقط الضوء باحتراقٍ في توهّجِ بهاءٍ ظاهرِ، هو الذي احترق فيما مضى في تجربة قاتمة تركت فيه حنينا لاذعا إلى دوام احتلال النور''.
محمد نجيم
سأله ''الاتحاد الثقافي'' عن علاقة اللوح بالقصيدة، وأين يجد ذاته بينهما فأجاب: أنا قبل كل شيء معروف كتشكيلي، ومكان صغير تحت شجرة الشعر الكبيرة يكفيني، فلا يمكنني أن أدعي الشعر ولو أنه رفيق الطريق لدى الإنسان منذ العهود الغابرة وأنه واحة من واحاتي الرائعة.
تنهض المسألة عندي على حاجة ماسة للتعبير، وهي بالمناسبة حاجة غريزية. فالنزوع الطبيعي للإنسان البدائي كان دائما ينحو به نحو الثقافي، نحو التعبير سواء بلغة الإشارة أو لغة الأثر أو لغة اللسان. وبالتالي، يمكن القول إن الإنسان كائن معبر. وعليه، فإنه حين تضيق بي العبارة، تناجي الكتابة اللون، وحين يستعصي اللون يستغيث بالكتابة، مثل علاقة الفراغ بالامتلاء. صلة هذين الجنسين وإن كانت صلة مصاحبة، فهي إلى جوار ذلك علاقة قدرية وعلى قدر كبير من الأهمية.
ومهما يكن الحال فهي تجربة مسبوقة، إذ إن كتابا وشعراء أمثال بودلير وفاليري وأرتو ومالرو وجبران خليل وأدونيس.. تعاطوا إلى الرسم أو الصباغة أو الكولاج إلى جانب كتاباتهم. كما أن رسامين أمثال دو بوفي ومارسيل دي شان.. كتبوا نصوصا إلى جانب اهتمامهم الرئيسي بالفن، بل إن مبدعين على شاكلة بلايك وميشو... يستعصي علينا حتى تحديد الغلبة لديهم، هل هي للريشة أم للقلم؟ أم هما معا يتعايشان جنبا إلى جنب؟ أم يتناظران وجها لوجه داخل نفس الشخص؟ غير أن تجربتنا في العالم العربي لا تستسيغ هذا النوع من التعاطي، ويعتبره الكثير، ليس من الجمهور ولكن من المثقفين، ازدواجية، لا ينظر إليها بعين الارتياح. وهو الأمر الذي لا نجده عند غيرنا من المجتمعات.
وأجد في سائر الأمثلة التي سقتها قبل قليل، بعض مرجعيتي، يشبه الأمر نوعا من الذهاب والإياب ولا يتعلق بتلوين الكتابة أو كتابة اللون، كما لا يعني ترجمة الرسم إلى نص أو النص إلى رسم، بل هي مناحي تعبير مختلفة ومستقلة، وكل ممارسة تعبيرية تقود إلى ما وراءها الخاص. ويحكمها في اعتقادي شرطان: الأول هو الذات أو التعبير. والثاني هو كيفية التعبير أو الجمالية.
وتسعى هذه العملية إلى تحقيق منجز ليس غنيا في تأمله فحسب بل وجميل في تصفحه، بفضل أملاح اللون في الشعر وأملاح الشعر في اللون، مثلما أملاح الأرض في الفاكهة. فالحقيقة الواضحة جدا تكف فيما بعد على أن تبقى مخصبة.
تداخل لحظتين
لكن هل حدث وأن تداخلت لحظة اللوحة ولحظة القصيدة، وهل هناك طقوس تميز كل لحظة؟ يجيب جاريد: مخطوطاتي الشعرية هي ضرب من الكتابة المائية أو الكتابة على ثلج، تجد صداها في ألواني السرابية كرسم على الضباب والرماد تحكي سيرة السواد العابر نحو النور وتجربة المحو المُعبّر عن الهشاشة أو أشياء هشة من قبيل الرغبة الهاربة ومن قبيل الحب الذي عَبَرَتْه الطمأنينة واللاطمأنينة ومنه أيضا أبعاد صوفية أخرى عَبَرَتْ النار واكتوت بلهيبها.
تحكي تجربة المقـْتَرب البعيد، والمبتعد القريب، أو ما لا يولج من مقامات الشوق والحرقة في حالات كثيرة ومقامات التجلي في حالات قليلة.
وليس في ما أقول أي ادعاء بل لا أخفيك أنه عبر هذه التجربة، أفقيا وعموديا، كثيرا ما أجد نفسي في موقف عجز اللغة وعجز اللون معا مقام، ما لا يقال. ذلك أن مسألة التعبير ومسألة الجمالية تمر عبر حد رفيع محفوف بالخيبة والخسران.
أما تجربة إدماج اللحظتين (الشعر والرسم) في واحدة، فهذا يتم روحيا وعينيا في أغلب منجزي الفني الخاص، وكذا في أعمال مشتركة على شكل حقائب فنية مع شعراء أصدقاء يقاسمونني نفس الحساسية، أو قاسموني طريقا، أذكر منهم الشاعرة المغربية فاتحة مرشيد والشاعر والناقد اللبناني شربل داغر والكاتب والناقد مليم لعروسي والشاعر أدونيس ومشروع قيد التفكير مع الشاعرة المتميزة ثريا إقبال... وأعتذر لباقي الأسماء.
مواد بدائية
ويشتغل على أشياء بدائية: أوراق الشجر، طين، متلاشيات، غبار.. فهل تلك الأشياء هي لترويض اللوحة أم هي محاولة الإمساك بزمن هارب؟ يقول: هناك شيء من هذا فعلا، من الطفولة وغير الطفولة، أي هناك اشتغال كبير على الاسترجاع والمحو، على طريقة الزهد أو قل النسيان، ذلك الوجه التراجيدي للذاكرة. يُتَرْجَم بصريا من خلال التشطيب والمحو واقتصاد اللون، لكنه محو ليس كالمحو، محو يشبه الشفافية، أو نسيان شبيه بالسهو في الزمان واستغراق في الذات وهشاشتها فاللوحة تكتمل عندما تنمحي الفكرة على حد قول (جورج براك) وأضيف: عندما نتطهر مما سبق. على هذا النحو يكون النسيان مثل المغفرة. ولا يستقيم الإبداع إلا بتخطي ما سبق وتنقية العين دون هوادة. اللوحة تتطلب همة بصرية، وغوص داخلي نحو الحقيقة، لبلوغ صفاء الذات. وليس هنا أحسن مما قال ابن عربي: ''وإن جعلت غيبك الحق فليكن مفتاحك ذاتك فلا دليل عليه سواك''.
أما عن استعمال مواد طبيعية في عملي الفني، مثل قشور الجوز ومسحوق قشور الرمان ومساحيق أحجار معدنية وطين وصلصال ومسحوق المَرْمَر وما إلى ذلك.. فهو متصل بأمرين، الأول هو أن هذه المواد الطبيعية تستجيب وتتماشى مع فكرة الذات التي هي جزء لا يتجزأ من الطبيعة ومن ''وحدة الوجود'' ككل، وليس ثمة مواد أخرى بوسعها أن تحقق ما أريد من تناغم مع المحيط مثلما أجده في العناصر الطبيعية تلك. أما الأمر الثاني فيعود لمتطلبات جمالية، إذ إن شفافية الحُجُب التي أشرتُ إليها قبل قليل وفكرة الهشاشة الداخلية لا أجدها إلا في هشاشة وحساسية هذه المواد الطبيعية.
وعن عالم المشاعر والانفعالات الذي تختزنه اللوحة يقول: المشاعر، حتى لا أقول الأفكار، ليس لها من رغبة إلا التعبير، وهذا التعبير المرغوب هو الذي ننتظر من ''الجِنّي'' أن يأتي لنا به، لذلك فالذي يجعل من تعبير ما فنا ليس هو التوفق في التعبير فقط، بل لا يكون التعبير فنا إلا إذا أصبح إبداعا، فكل الناس يُعَبّرون ولكن ليس كل الناس فنانون. والإبداع ليس هو الدقة في التعبير، بل في الإبداع حيز كبير من الحلم ومن الانزياح إلى الطفولة واللاوعي، وكثيرا ما نلاحظ أن الوضوح يفسد العمل الفني. ولك أن تلاحظ ذلك في لغز الابتسامة الغامضة لموناليزا، حتى أكتفي بهذا المثال العالمي. وما يعرف عامة بمعاناة الفنان، هي راجعة في بعض جوانبها إلى بلوغ القدرة على التعبير عن الشحنات الانفعالية أولاً، وثانيا إلى الدرجة المجازية لهذا التعبير، وإلا سنسقط في التقريرية والخطابية المباشِرة، بل وحتى الأعمال اللْمابَعْد حداثية التي منها ما يعتمد أسلوب الصدمة أو المُباشَرة، تستند على مخيلة أو على مرجعية لاواعية، كالهذيان أو السخرية أو غير ذلك.
أما طقوس الإنجاز الفني فليست واحدة لدى كل الفنانين. وفيما يخصني فإن شرط الخُلوة ضروري لتوفير العلاقة الحميمية بالعمل. بيني وبين اللوحة كثير من العورات، كثير من البوح والكتمان والهجران والتودد والخيبات والنشوات، بيننا هذيان من يحدث نفسه، ومقامات للصفاء ومقامات للجنون. ولأن العمل الفني يعتمد كثيرا على الصدفة، بل نتصيدها ونراودها عن نفسها فإني أجد نفسي كثيرا ما ينبغي الخروج عن جادة الصواب واعتماد طرق لعبية وتجريبية مع اللوحة. ومن جهة أخرى أستأنس بالموسيقى والسماع وكل ما يساعد على شَحْدِ الهمة والروح.
الجيد والرديء
وعن رأيه بتجارب الفنانين الذين يحاكون الطبيعة ويرسمون أحداثا ومشاهد من الحياة ظانين أنهم على صواب في اختياراتهم يعلّق: أعتقد أنه ليس ثمة حكم جاهز ونهائي على هذا الاتجاه أو ذاك، إذ إن أعمالا فنية تشخيصية جيدة وأخرى تجريدية رديئة، كما أن ثمة أعمالا فنية تجريدية جيدة وأخرى تشخيصية رديئة، فجودة الإبداع أو رداءته ليست بسبب الانتماء إلى اتجاه معين. ولكن يمكن أن يتأثر الذوق العام بصرعة فنية نتيجة الضغط الإعلامي أو السوق الفنية أو ما إلى ذلك.
إن الاتجاهات المحاكاتية، هي نوع من استنساخ الواقع وإعادة إنتاجه دون تمثل، دون تأويل، ومن دون موقف من الحياة، وهذا الفن لا يطرح إشكاليات ولا يعيش أي قلق، علاقته بالواقع أو المجتمع علاقة مصالحة. فالفنان بصرف النظر عن كونه منتج للجمال فهو نظريا مثله مثل الفيلسوف أو الشاعر، يشكل ضميرا مزعجا للمجتمع. وهناك نوع من الفنانين ليس لهم مشروع وغير حاملين لأسئلة، لأنه لا تؤرقهم أي أسئلة أصلا. بل يتحملون نصيبا وافرا من مسؤولية إشاعة الرداءة وتبليد الذوق العام. يتحملونها إلى جانب الأروقة التي تركد وراء تلبية بؤس الذوق المبتذل ووراء ربح تجاري سريع. إن البشاعة بهذا المعنى نوع من العنف، فكم هو صادم أن نلاحظ بأن البشاعة تزداد انتشارا وتقود العالم، وكم يلزمنا من الجمال لكنس كل هذا القبح.
وعن قاعات العرض في المغرب يقول إن منها الغث ومنها السمين، ويضيف: القاعات التي تحترم نفسها هي بالضرورة تحترم الجمهور وتحرص على تقديم معارض في مستوى جمهورها. ولكن عموما هناك انطباع ايجابي تجاه برامج قاعات العرض. وهناك مجهودات ملحوظة في مجال تهيئة الأروقة الخاصة من حيث تصميمها وخضوعها لمعايير العرض من مستوى مقبول إلى مستوى ممتاز ومهما يكن لا يزال المشهد الفني المغربي المعاصر رغم ما وصل إليه من تطور يحتاج للمزيد من البنيات والفضاءات نظرا للطلب المتزايد على العرض ونظرا للانتعاش اللافت للنظر للسوق الفنية المغربية التي أخذت تستأثر باهتمام متزايد.
العطـر ü
كفّتْ عن الركوض ثانيـة
أوراكها تراقصني
أم تُراها تراقص الأرض
وتراقصني
هاهي الآن تتمهل
راسخة في قتلك
ثوب الحداد الراسخ أيضا
وحده كاف كي تسقط صريعا
قلاعها حُفَرُها مفاتنها تَخَمّرتْ
قصباتها أسماؤها نظراتها تعتقتْ
أدْمَنَتكَ فسكِرْتَ وليس لك إلا أن تبتهل
أدْمِنْها وتَجَرّعْ ورْدَها حرفاً حرفاً
وَدَعْها تأخذك إلى طُرُقها
وإنْ كَفّتْ عن الركوض
تَشَبّعْ بأنفاسها
تمَسّحْ برائحتها
تبلل بِعَرَقِها
حتى
تسري
في دمـكَ
كالعطر
حتى
تأخذيـه
يا فرسه
إلى عدن.
الشاعر والتشكيلي أحمد جاريد |