في المعرض الفردي الثالث للنحاتة نادين أبو زكي تنجلي التجربة وتتبلور بشكل أكثر وضوحاً، وإن استمر فيها القلق والبحث والتجريب، التي من الطبيعي أن تستمر في تجربة شابة، لم تتعدَّ بعد المعرض الفردي الثالث. لا بد من الالتفات إلى تجربة الفنانة، كونها تقريباً الوحيدة بين الشابات اللبنانيات، اللواتي اخترن الفن التشكيلي طريقاً لتحقيق رؤاهن، وللخوض في غمار الإبداع الفني. ولأنها أتت إلى الفن من الفلسفة، نجد سيرتها الفنية بعيدة عن الاضطراب والارتباك، فالهدف عندها أكثر وضوحاً من تجارب آخرين، تنقصهم القدرة على الإمساك بالفكرة أو الرؤية، التي ترتكز عليها التجربة، أو يصب فيها الجهد. قرابة ٢٥ عملاً نحتياً رأيناها في معرض نادين أبو زكي في غاليري »سورفاس ليبر«، جل الديب (يختتم اليوم السبت)، تنوعت بين خشبية ومعدنية، مع إدخال قضبان معدنية في بعض الأعمال. حمل المعرض عنوان »وأنا أطير«، متضمناً معنى الغيرة من الطيران، والرغبة في الانعتاق من أثقال الأرض، أو بالمعنى الفلسفي تحقيق التجلي والسمو نحو فعل الخلق أو نحو الخالق، في ارتحال صوفي تنكشف فيه حقائق الوجود، بل يتحقق الوجود نفسه. وربما هي الوجودية السارترية التي لا تتحقق من دون تلك الحرية التي يحملها معنى الطيران. قد لا يكون الكلام في الفلسفة مهماً إذا كان العمل الفني مقصّراً عن بلوغ الهدف. فلنذهب ونرَ ما تقدم أبو زكي لمن يشاهد أعمالها! هي طيور تمثل فعل الطيران، طيور ناهضة ترفع أجنحتها نحو السماء. لكن هذا الواقع ليس مكشوفاً لعين غير حالمة ومتبصرة، ذلك أن أسلوب الفنانة يتسم منذ تجاربها الأولى بالتجريد والاختصار أو تحويل الواقع إلى رمز أو حركة. فنحن لا نرى أجنحة بل حركة الأجنحة الطائرة، لا نرى جسد العصفور بل ما يوحي بوجود هذا الجسد، لا نرى ملامح الطير وما تنبئ به عيونه ووضعية رأسه وجسده، بل نرى كل ما يوحي بذلك. إنها حركة اللامرئي. وبالتالي لا بأس أن تتداخل حركة الطير مع حركة الإنسان، وتتداخل الرغبات والمعاني، ويصبح الرمز أكثر إشعاعاً، في عدد من أعمال المعرض. تتحول الحركة إذاً إلى مفردة بصرية، إلى متوازي المستطيلات محنيٍّ بشكل نصف دائري، أو على شكل زاوية. تلك هي المفردة الأكثر تردداً في المعرض، تُلبس الشكل لبوسه العاطفي، المفتوح لا المقفل. منحوتات قليلة تلتف على نفسها بحركة تقليدية، وإذا انفتحت فمن خلال فجوة تهوية دائرية يمر عبرها البصر. العاطفة التي تحققها الالتواءات، مشغولة بهندسة صارمة، تلك الهندسة التي تبدو قاسية في منحوتات أخرى، نجد فيها زوايا حادة تلغي الانحناءات، أو تجعلها بعيدة عن الطراوة والحياة، وهكذا يتحوّل الشكل العام للمنحوتة إلى حالة ذهنية أكثر تجريداً. ولا نجد تفسيراً لهذا الانتقال إلا الانقلاب نحو الوجه الآخر للشكل الغنائي للطير، المتمثل بزاوية المنقار الحادة، وكذلك زاوية الجناح المفتوح، وما إلى ذلك من تفاصيل قريبة من الزوايا المسنّنة الجارحة. تفكك نادين أبو زكي، إذاً، جسد الطير وحركاته وحالاته، ثم تعيد تركيبها، في لعبة تترك، في عدد من الأعمال، شيئاً من الفتنة الممزوجة مع كثير من التبصر. وفي أحد أعمالها الخشبية تركب مشهداً من ثلاثة أزواج من الطيور منصوبة فوق بعضها بشكل متناسق، وآخر من صفوف طيور مشكوكة بقضيب معدني، ربما تؤسس به لتجربة تجهيزية. لكن المعنى الذي يحلق في فضاء الصالة هو التوق إلى الطيران، أو محـاولة النهوض من قعود قسري، أو التخفف من ثقل مطبق، وبعد ذلك تأتي رحلة الخلق. |