ترسّخ غالبية الأعمال البصرية المختارة للدورة الرابعة من «أشغال داخلية»، التي تنظّمها «الجمعية اللبنانية للفنون التشكيلية، أشكال ألوان» بدءاً من قبل ظهر اليوم السبت، مفهوماً مغايراً للمنطق السوي في تحقيق أشرطة فيديوية. ترسّخ نمطاً نافراً في بنية المجتمع اللبناني، لأنه (أي النمط) لا يتوافق والنسيج الثقافي والفني المحليّ، الذي يُفترض به أن ينفتح على البيئة العربية المجاورة الحركة الإبداعية الغربية ويتواصل معهما. تُرسّخ شكلاً فنياً لا يتلاءم ومفردات العيش اللبناني بمستوياته كلّها، ولا يشبه الصورة المحلية التي لا تزال عاجزة عن بلورة حضورها في المشهد الإبداعي. تُرسّخ أسلوباً لا يخرج من أرض الواقع ولا يصنع سويته الإبداعية، لأنه غارقٌ في التماهي المطلق بأشكال التعبير الغربيّ من دون أدنى قدرة على استنباط مادة محليّة في مثل هذه الأشكال. ترسيخ المغاير
مشهد من «مجرّد رائحة» لماهر أبي سمرا
إذا بدا المجتمع اللبناني متأثّراً بما يحصل في الغرب تحديداً من تطوّر مذهل في آلية ابتكار النصّ الفني الإبداعي، فإن الإنتاج البصري اللبناني لم يبلغ مرتبة رفيعة المستوى إبداعياً في خلق المشهد التعبيري المحليّ، لأنه منسحق أمام قوّة التعبير الغربي الطالع من تاريخ عريق من التحوّلات والإفرازات الإبداعية، ولأنه يقطع مع الذاكرة التاريخية الجماعية الخاصّة بهذا الحيّز المجتمعي ثقافياً وإنسانياً واجتماعياً. ذلك أن الأعمال الفيديوية هذه تُرسّخ خطّاً بصرياً لا يتحرّر من الادّعاء المشهديّ في ابتكار العمل، ولا ينصهر في إطار فني راق، لأنه مليء بالادّعاء البصري المتمثّل بغلبة الشكل على المادة الدرامية، بحجّة أن «فن الفيديو» مرتكز على براعة الابتكار الشكليّ، في حين أن ما يُنتج محلياً يقع في فخّ الانجذاب الأعمى للنص الغربي أو في متاهة الاشتغال العبثيّ على معطيات التقنيات الحديثة التي تذهب بالصنيع الفني إلى لاشيء. ذلك أن الأشرطة المختارة/المنتجة للدورة الرابعة بدت تائهة بين ادّعاء إبداعي يطمح أصحابه إلى استخدام التقنيات المتطوّرة لابتكار أنماط بصرية مبهمة، وتأثّر منقوص بثقافة الصورة الغربية ومساحات تعبيرها الشاسعة. أي إن المحليّ هنا متغرّب عن ثقافته وأدوات قوله، لأنه قابلٌ بالذهاب إلى الآخر من دون تحصين ذاتيّ للمحليّ القادر على رفد النصّ الحداثوي بلغته الخاصّة. ولأنه متغاض عن محليته لحساب نسخ الغربيّ من دون إيلاء الشقّ المحليّ أي اهتمام. إذ ما معنى أن تُستخدم آلة الكاميرا الفيديوية لتصوير أعمال مستلّة من التأثيرات الغربية، إذا لم تتضمّن أي بُعد محليّ ممزوج بتواصله السوي مع الآخر، وهو بُعدٌ منفتح وعصريّ؟ ما معنى أن يتحوّل الكمبيوتر إلى اللغة الوحيدة للتعبير المتغرّب عن الذات وبيئتها ومحيطها الاجتماعي والثقافي، بينما هذه التقنية نفسها قادرةٌ على تطوير المبنى التعبيري من دون تغييب المضمون؟ هذه أمثلة متفرّقة بين المحليّ والأجنبي: كاميرا تلاحق آلة رفع أثناء هبوطها وارتفاعها بأناس يصعدون إلى سطح أحد المباني ثم ينزلون، من دون أي معنى أو تجريب لا في الصورة ولا في الإخراج ولا في المضمون ولا في السياق ولا في المونتاج ولا في التعبير («أتساءل ما يجري في الأعلى» لأحمد أوغوت). خمس وأربعون دقيقة متواصلة، وعدسة آلة الفيديو لا تتحرّك من أمام وجه امرأة ممدّدة على السرير تستمع إلى منام ابنتها التي تريد من والدتها تفسيراً له، من دون بلوغ أي مرتبة سجالية مفتوحة على أسئلة ما، لأن الحوار الدائر بين المرأتين، إلى جانب تكرار أمور شتّى أكثر من مرّة، ظلّ تائهاً في دائرة منغلقة من الجمود والفراغ. أم إن هذا كلّه «فن حداثوي»؟ («شفت منام ماما» للينا صانع). هناك فيلمان آخران أيضاً لأحمد أوغوت («قطار الموت» و«سيارة شخص آخر») لا يقلاّن ادّعاءً بصرياً للعبة يُفترض بالرجل أن يتسلّى بها وحده، مع أن مشاهدين عديدين سيقولون إنها تجريب طليعي، وسيطلقون كَمّاً هائلاً من التنظير المتصنّع لتبرير نصّ فني خاو من أي إبداع أو قول، بينما هو (النصّ) لا يتمتّع بأي منطق إبداعي. وماذا عن «سجين حرب، 57187» لوحيد زارا زاده؟ إنه شريط عاديّ للغاية، عن مادّة إنسانية لم تتبلور دراميتها في بناء سرديّ جاذب وسوي. إنه عن الأسر في الصراع العراقي الإيراني، وعن يوميات أسير في مواجهته تحدّ قاتل بين جدران المعتقل من خلال رسومات ومجسّمات بشرية، وعن تحويله المعتقل إلى مقرّ فنيّ. لكن الشكل باهت، والسرد الروائي لا يُقدّم جديداً. منطق تجريبي مرّة أخرى، أجدني منساقاً إلى القول إن المنطق التجريبي في إنتاج أشرطة فيديوية كهذه موجودٌ في المشهد الفني العالمي. أرفضه لأني لا أراه معبّراً فعلياً عن معنى الاشتغال الحرفي للإبداع، فهو إما مسطّح وإما خال من أي ركيزة درامية أو جمالية (وإن اختلف «فن الفيديو» كلّياً عن التعبير السينمائي ولغته وأدبياته وثقافته، لأن له ثقافة خاصّة به تحتاج، هي أيضاً، إلى منطق مقنع في ابتكار صُوَره واختيار مادته)، وإما مُفرَّغ من أي معنى إنساني أو ثقافي أو فني. أما مسألة الترسيخ فمرتبطة بسياسة واضحة تسعى إلى تفعيل هذا المنطق في مجتمع مقيم في جاهلية قاتلة، على الرغم من الاختبارات الفردية المهمّة في إبداعها، وفي بيئة مسكونة بالتباس علاقاتها بذاتها والآخر. يأتي الترسيخ في مجتمع هشّ وعاجز عن تثبيت ثقافة إبداعية محليّة خاصّة، لا شكّ في أهمية انفتاحها المطلق على الاختبارات والتجارب العربية والغربية المتفرّقة لإغناء المحليّ وليس لتغييبه أو قتله. وهذا كلّه ليس انتماءً فولكلورياً إلى بلد منذور للخراب الدائم، بل رغبة أكيدة وصادقة في أن تمتلك المدينة حيويتها الخاصّة وثقافتها المستقلّة، ولا بأس باستفادتها القصوى من كل ما يجري في محيطها العربي وامتدادها الغربي. أما أن يُنظّر لهذا النتاج على أنه عصريّ كاسر القيود ومتحرّر من السائد ومنقلب على كل شيء بحجّة أنه «إبداع»، فهذا استكمالٌ لخطّة الترسيخ القسري لنمط بدا ساقطاً من خارج بعيد على محليّ مرتبك وملتبس الإبداع. في المقلب الآخر من اللعبة، يبرز فيلم «مجرّد رائحة» لماهر أبي سمرا: ألا يميل اشتغاله الشكليّ إلى تجريبية التصوير والمونتاج مثلاً، في حين أنه موغل في محليّته المنفتحة على أسئلة إنسانية وأخلاقية نابعة من حرب تموز 2006 وممتدّة على المساحة الشاسعة للبؤس الإنساني العام؟ وماذا عن أعمال الفيديو التجريبية لغسان سلهب: أليست مزيجاً إبداعياً للاختبار التجديدي في آلية التقاط المشاهد وتصوير اللقطات، والتوغّل في متاهة الفرد المرتبط ببيئته من دون القطع مع الشمولية الإنسانية الواسعة؟ يستعين «مجرّد رائحة» بقوّة الصورة في التعبير عن حجم المأساة الإنسانية التي ألمّت باللبنانيين أثناء تلك الحرب المشؤومة، تاركاً إياها تنطق بالنصّ المنسوج بمتتاليات مشهدية مستلّة من داخل النبض الحيّ للموت والخراب والألم. ويذهب فيلم غسان سلهب (posthume)إلى تخوم واضحة في لعبة البحث عن القدرات الحقيقية للصورة في استنباط المعاني وإعادة صوغها في مسار حكائيّ مزج التجريب بتقنية الفيديو، ومنح اللحظة السردية براعة الخلط بين الشعريّ والفنيّ والإبهار الروائيّ.في مقابل هذا كلّه، هناك أفلام أخرى مختلفة عن هذا النمط: «سنترال» محمد حماد مثلاً، يروي حكاية مأخوذة من واقع العيش اليومي في مجتمع متزمّت ومنغلق بعاداته الاجتماعية الصارمة وبثقافته المحاصرة بالعزلة والقهر. يُشرّح نماذج حيّة من أبناء هذا المجتمع، مستخدماً (في بعض اللقطات) لعبة تقنية في دمج مشاهد بعضها ببعض، كي يلتقط نبض هؤلاء المسحوقين أمام المحرّم الجنسي. فإلى السنترال العام هذا، الذي تديره فتاة محجّبة لا تملك جمالاً لافتاً للنظر، يأتي أناس متنوّعو الأمزجة، قلقون ومتوترون وغارقون في كَمّ هائل من الآلام والضغوط الاجتماعية، لإجراء اتصالات هاتفية بآخرين لا يظهرون إطلاقاً على الشاشة كأنهم أشباح، فإذا بهذه الصبيّة تتنصّت على الجميع وتروي حكاياتهم المليئة بالهواجس الجنسية تحديداً.
|