في مساء الخامس والعشرين من نيسان 1990 انقطع التيار الكهربائي عن أرض مصر بكاملها بسبب عاصفة رملية ضربت المولّد الرئيسي في السد العالي، في تلك الساعة كان الفنان المصور حامد ندا وحيدا في مرسمه في مبنى وكالة الغوري العتيق، فخرج متلمسا طريقه في الظلام لتخونه إحدى درجات السلّم ويرتطم رأسه بحافة درجة أخرى ويظل ساعاتٍ ينزف قبل أن يكتشفه أحد. كان قد أصيب بشلل نصفي مات على إثره بعد أيام. علّقت إذاعة "بي بي سي" العربية وقتها بسخرية على انشغال وسائل الإعلام المصرية بتلاوة الأرقام التي خسرتها مصر بسبب انقطاع التيار من دون أن تذكر فداحة فقدانها ذلك الفنان العظيم. غالبا ما تلعب اللحظة التاريخية دور البطل في تشكيل مسار بعض النابغين، فلولا الاحتلال الإنكليزي للهند مثلا لما سمعنا بغاندي، ولولا الظرف التاريخي لبيكاسو لما برز بذلك الشكل المعروف. الكلام هنا عن مسار ندا ومرتفعاته وليس عن شهرته، فالرجل على رغم اسمه المسجل في أكثر من موسوعة عالمية، لم يصدر عنه في مصر حتى ولا كتالوغ تعيس أو موقع الكتروني الى درجة التساؤل عن علاقة وزارة الثقافة المصرية بالثقافة أصلا. ويبدو ان الظرف التاريخي الذي هداه إلى طريقه المتفرد هو نفسه الظرف الذي طواه في النسيان، فأعمال الرجل معروفة وحاضرة في ذائقة الخاصة وبعض الدارسين ذوي الذوق الرفيع وليس أكثر. فقد ولد الرجل عام 1924، الوقت الذي كان يبحث فيه المثقفون المصريون عن هوية وطنهم الحبيب في الفن والأدب والسياسة. نشأ في أحد الأحياء الشعبية (حي الخليفة) المتشبعة ببخور الخرافات والسحر ودخان الحشيشة وحكايات الجن وممارسات العلاج بالزار والأحجبة وعوالم الشحاذين والقوادين وبهلوانات السيرك والأفراح البلدية والمقاهي، تلك العوالم التي استلهمها بنوع من الاستاتيكية والجمود في بدايات تجاربه الفنية التي تشابهت الى حد التماهي مع أعمال صديقه الذي رحل شاباً عبد الهادي الجزار، بتوجيه من المفكر حسين يوسف أمين مكتشف المواهب وراعيها في ذلك الوقت بحنوّ وأبوة فنية نادرا ما نجد مثلهما هذه الأيام، معلما إياهما دور الفنان في محاولته تقديم الواقع بغية نقده وتغييره وليس لمجرد نقله. هذا إلى جانب التيارات الفكرية التي كان يموج بها العالم في الأربعينات ويتردد صداها في مصر بأصوات مثقفين مخضرمين وثائرين مثل رواد جماعة "الفن والحرية": الرسام المفكر رمسيس يونان والشاعر جورج حنين وكامل التلمساني وفؤاد كامل وغيرهم ممن أسسوا السوريالية المصرية وكانوا على صلة شخصية بمؤسسها في باريس أندره بريتون. وسط هذه العوالم المشحونة والباحثة والطامحة الى التغيير بدأ يتبلور وعي ندا الفني والسياسي وتظهر شخصيته وتفردها وخصوصا بعد ملاحقة رواد "الفن والحرية" سياسيا وحل جماعتهم ومغادرة معظمهم أرض الوطن في يأس تام، وكان قد ارتبط معهم برباط سوريالي لا تنفك عراه إلا وقت وقوفه وحيدا مواجها بياض اللوحة المخيف. كان اكتشاف ندا للتصوير المصري القديم مع بداية الخمسينات نقلة كبرى في تاريخ إبداعه، إذ يبدو أنه وجد ضالته الفنية، إن لم نقل هويته (وهل هوية الفنان إلا إنتاجه نفسه؟). المفارقة الطريفة هنا أنه بث في استلهاماته التراث الاستاتيكي الرتيب والذي يتناول غالبا عالم الموت وما بعده، ديناميكية وصخبا أقرب إلى روح الرقص والموسيقي، وهو الذي كان بدأ مسيرته الفنية قريبا من حالة التحنيط، فاستل مخزونه الواعي وغير الواعي من طقوسية الواقع وغيبوبته في ممارسات طوطمية وبدائية، يصب أشكالا وأجسادا تتماس مع رسوم الكهوف، بتحويرات في شكل الجسم الآدمي تذهب بالتعبير إلى أغوار تبتعد عن السوريالية كمفهوم بقدر ما تقترب منها كحقيقة ووجود وشعر. فالعازف يصبح هو الآلة الموسيقية ويصبح الموسيقى نفسها، والمرأة هي الإلهة حتحور وهي الغانية وهي الجوهر الذي تتناثر منه وحوله كل تلك الأشلاء الدائخة في نشوة الرقص والحركة. "العمل الذي يخلو من السوريالية هو عمل ناقص"، يقول ندا، وهذا حقيقي شرط أن يكون اللاوعي صادرا عن الأنا الكبيرة وليس من الأنا الضيقة أو الإيغو. اللاوعي هو حالة فالتة هاربة ومن العبث محاولة الإمساك به، وهو بذلك يجسد اللغز الوجودي للحياة حين يجد ممرات شفافة يتسرب من خلالها في ثنايا العمل الفني الذي نال حظه الكامل من حسابات الوعي وتهذيبه لأشكاله، جماليا. وبقدر ما كبرت الأنا الواعية عمق اللاوعي. نظرة على ذينك الجانبين في لوحات حامد ندا، ننبهر بالقدرة الرفيعة على العزف بالخط وإخضاع الشكل لعقلانية خارقة في حساباتها الرياضية وصرامتها. في المقابل نرى كيف تقترب تلك الرياضية، بتحويراتها وتفرعاتها وخفتها وشاعريتها وعفويتها، من معاني الوجود البكر وسط موسيقى ورقص وعناق المفردات المختلفة الأجناس والأنواع في عالم جوهره هو نفسه هذا العالم الذي نعيش فيه ونسكن حضيضه. إلا أن المستوى الوجودي المتعالي الذي تنبع منه لوحاته وتعكسه، يظل مفتوحا على إمكانات التفسير ومطروحا كإمكان تحقق ووصول. لو استثنينا بعض الأعمال القليلة التي تناول فيها همّاً سياسيا لم يفارقه، كموقف، طوال سنوات إبداعه، فسوف نواجه بزخم لا مثيل لثراء مفرداته وتنوع مستوياتها من أحجام المنظور وزواياه وحركية لا تهدأ ولا تدع فرصة للعين لتتوقف عند جزئية أو مفردة في عينها. من ذلك اللهاث يتولد البعد الزمني في اللوحة بمستويات وطبقات يبدو الإحساس به مختلفا في كل مرة تعود العين لتأمل العمل نفسه، وهذه هي المفارقة التي ينطوي عليها وهم اللوحة: عمل لازمني يتم إدراكه في لمحة، في استطاعته التلاعب بالزمن تمديدا أو تجميدا، وخلق أزمنته الخاصة. فبعض اللوحات تبدو كأنها إحدى مقابر وادي الملوك وقد ثارت الشخوص والقرابين والجدران والزوايا والسقوف والأقواس على سكونية الموت الطويل ذاك لتعاود الرقص والركض على تراب أزمنة منسية تتبادل فيها الكائنات والجمادات أدوار بعضها البعض وأعضاءها في دوران محموم هو جوهر الطاقة الحيوية للعالم بعدما تخلصت من أسباب علائقها النفعية الرخيصة ووصلت إلى محطة وراء الخير والشر، فليس عجيبا هنا أن يقف الثور على البيانو وأن يحلم الديك بالمرأة وأن يرقص الحمار سكران وأن يحوم الطاووس حول المرأة ليقبلها وأن تعوم السمكة الضفدع في بطن البنت الجميلة وأن تنصت القرود خاشعة للربابة ويتجول القط كإله مخمور في درب الهوى ذاك. مع ازدياد فقدانه لحاسة السمع، والتي تبدو كأنها رغبة عميقة غير واعية منه لإسكات أصوات الواقع القبيح حوله وحماية موسيقاه الداخلية منها، بدأ توحده مع الهدير الصامت للون وللخط ولشفافية لم يعرفها التصوير المصري منذ عهود الفراعنة، ارتفع فيها بأدخنة المجتمع وسخامه إلى سحب مضيئة، وارتقى بتشنجات الزار إلى إيماءات حب بين أجساد تفيض بالنشوة، وحوّل فيها شعوذات الواقع وسحره الأسود إلى سحر الوجود نفسه في أخف حالاته وأبهاها. لم يتسن لي إلا مرات قليلة الاقتراب من ذلك المايسترو والاستماع اليه خلال سنوات دراستي في كلية الفنون الجميلة. كنا نكتب أسئلتنا على ورقة أو نقترب من سماعة أذنه اليسرى وهو يجيب بصوته المبحوح الآتي من بعيد والمندفع إلى بعيد، ولكني أذكر جيدا مشيته الطائرة وهيئته الملكية. كانت كائنات خفية مشعة تتقافز من كيانه الفخم، حتى وهو ساكن. |