يتابع الفنان جان مارك نحاس تجربته التشكيلية، بمزيد من الحركة والتجديد، مهموماً بتجديد لوحته وفتح أبواب البحث والتجريب فيها، والغوص في ذلك العالم الواسع الذي يمتد من الواقعية الجديدة إلى السوريالية إلى التجريد والاختزال الكاريكاتوري، إلى التعبيرية... يمزج المدارس أو يجعلها في خدمة لوحته. لا تهمّ نحاس تسمية المدرسة، ولا الإطار الفني الذي نضعه فيه، فهو في الأساس متمرد على الأطر وعلى الواقع، ويبذل، في لوحته، كل ما في وسعه لنقد الواقع والتمرد عليه والسخرية منه. المعرض الذي ضم ٤٨ لوحة، من أحجام تتفاوت بين كبيرة وصغيرة، تحتضنه صالة »ليبنيست« لغاية ٢٩ تشرين الثاني الجاري، بل تفتتح به هذه الصالة أبوابها للمرة الأولى، وقد نقلت نائلة كتانة كونينغ صالتها التي أقامتها منذ ما يقارب السنتين تقريباً، في منطقة الجميزة ببيروت، إلى مكانها الجديد في سنتر جفينور، الحمراء. يوميات القلق أعمال المعرض التي تنوعت في تقنيتها بين الأكريليك والحبر الصيني والمواد المختلطة، تنوعت أيضاً في مضامينها وأسلوبها. لكن ما هو بارز قبل أي شيء آخر في هذا المعرض الجديد لنحاس، تخفيفه للأجواء الكابوسية، وقد عَنْوَنَ معرضاً سابقاً له، مثلاً، »رأساً على عقب«، بل وضع في ذلك المعرض فيلماً لهتشكوك بالأبيض والأسود، وتماهى والفيلم في كابوسيته، وحتى في استخدامه للأسود والأبيض. المعرض الجديد، إذاً، أتى مخففاً من تلك الكابوسية، أو المأساوية المقلقة، أو العنف الضاغط على الخط واللون وأشكال الناس وحركاتهم. حاول الفنان نحاس في جديده أن يخفف العنف، ليس من خلال العنوان فقط، وقد أضاف إلى العنف كلمة أخرى، فصار العنوان »عنف هادئ«، إنما أيضاً من خلال موضوعات الرسم التي انفتحت على الفرح، وتحولت إلى نشيد حياة مختلفة. إنها محاولة من جان مارك للخروج من الدائرة السوداء التي وضع نفسه فيها. أقول »محاولة«، لأن الحزن لم يغب عن الكثير من وجوه الناس التي رأيناها في المعرض، بل بقي يظهر في »يومياته« ذلك الحيوان الأقرب إلى الذئب، وهو يفتح شدقيه على عواء أسود. الواقع العاري وإذا كانت تلك اللوحات الكبيرة، التي تجمع عدة رسوم من يوميات الفنان، وقد ألصقت كلها على لوح خشبي، قد حملت عفوية الفنان في اختطاف لحظات يومية، فكيف يمكن أن تخلو، وهي منفذة بين ٢٠٠٥ و،٢٠٠٨ من تلك الأحزان المحيطة بالفنان، وهو الذي ينطلق، أولاً وأخيراً، من تحويل الواقع إلى حالة فنية، ذلك الواقع المجرد من ألوانه وتفاصيله التمثيلية، أي الواقع العاري الذي ينقل حالة عامة، أو يسحب الحالات العامة إلى مكان عام. إنه سرد متقطع على قدر من الانتقاء، ومع ذلك لم يستطع الفنان، في أي حال، أن ينظّف لوحته من الانكسارات الحزينة أو القلق المتنقل. وهو حتى لو شدّ موضوعه إلى الضحك فهو الضحك الأسود، أو لنقل السخرية السوداء، التي يحملها فن الكاريكاتور، الفن الذي لا تغيب روحه عن لوحات الأبيض والأسود، التي يتجه الفنان فيها إلى التعبير بالرسم، وتزخيم التعبير ببعض أشكال التضخيم أو التسخين الكاريكاتوري. تنحاز خطوطه أحياناً إلى هذا الفن، بل حتى أن بعض لوحاته، كتلك التي تمثل فتاة تمارس رياضة رفع الأثقال، المصوّرة بالألوان، انحازت إلى تلك السخرية المضحكة. ولعل اللوحة التي تمثل مجموعة وجوه لنساء بالأسود العريض والأبيض، في صدر الصالة، تؤكد بقاء هذا الجو الكابوسي. هي وجوه تبدو كأنها تعرضت لحالة عنف أو هستيريا رعب. يحوّل جان مارك نحاس الوجوه والأجساد إلى مادة مشهدية في اللوحات البانورامية، بل يحول اللوحة إلى مسرح يوميات، كل يوم أو كل رسم له موضوعه وخصوصيته، إلا أن إلصاق الرسوم إلى جانب بعضها البعض لا يؤدي إلى توكيد اتصالها الموضوعي، فالرقص إلى جانب القلق، وحيوان عابس إلى جانب وجه إنساني ضاحك. ومع ذلك فهو من الناحية البصرية يضرب المساحة بألوان تقيم صلة بين الرسوم المتجاورة. في أي حال، مهما تنوعت مضامين الأعمال الجديدة لنحاس، فإن الأشكال التي قدمها بقيت تدل على تميزه، وعلى بصمته الخاصة، بكثير من التجريد الخطي الاختزالي والعفوية في ضرب اللون أو الخط، وقليل من التفصيل، لكن مع تفعيل مستمر للحالة التعبيرية.
|