يرسم جان ـ مارك نحّاس بلا انقطاع، رؤاه الكابوسيّة تارة، ومشاهد من الحياة اليوميّة تارةً أخرى، وقد اختزلها إلى خطوط وألوان قليلة، تحكي علاقته الإشكاليّة بالعالم الخارجي. معرضه الحالي في «غاليري كتّانة» (بيروت)، يجمع بعض أعماله السابقة منذ العام ٢٠٠٠، ولوحاته الأخيرة التي هدأ فيها العنف، أو تحوّل إلى ابتكارات جديدة بيار أبي صعب في معرضه الجديد «تجليات العذوبة والعنف»، يبدو جان ــــ مارك نحّاس (١٩٦٣) مسكوناً بطاقة عارمة تدفعه، بإصرار مرضيّ، إلى التعبير عما يعتريه من أحاسيس ورؤى. ينهال على الأشياء، يمعن في تشخيصها حد الهوس. الأمر نفسه ينطبق على علاقته بالبشر، يجعل منهم كومبارساً أزليّين في هذيانه التصويري. يأتي بهم إلى كرنفاله الخاص جداً، يختزلهم إلى خطوط قليلة، في المشهد المكرر إلى ما لا نهاية. يبحث عن المينماليّة في زحام الرؤى وصخب تجلياتها. القصص التي تطفح من الأطر والجداريّات والمربعات الصغيرة، تلاحقنا كالرؤيا. إنّه العالم بقصصه وكوابيسه ومشاهده العاديّة وفراغه الممتلئ، وقد انقلب «رأساً على عقب»، إذا شئنا أن نستعيد عنوان معرض نحّاس السابق في «زيكو هاوس»، بعد عدوان تمّوز، من تنظيم «أمم» («الأخبار»، ٦/ ١٢/ ٢٠٠٦). يومها رسم البلد بعد البيغ بانغ... هذا «الانفجار الكبير» الذي يجد صداه في ما عايش جان ـــ مارك نحّاس من حروب، لكنّه في الحقيقة داخل الفنان اللبناني الأربعيني، لا خارجه. الشغل الأساسي الذي يعود إلى تلك المرحلة، وحتّى إلى مراحل سابقة («بيروت يا حبّي»، «نوافير حبر»)، موجود في معرضه الحالي. لكنّ رسومه تغيّرت بعد ٢٠٠٦، هدأ العنف الداخلي. صارت المربعات والمستطيلات فسيحة، تتسع للبياض وتحكي تفاصيل قليلة، ووضعيّات مكثّفة. نشعر أحياناً بأن التتمّة خارج الكادر، أخرجها الفنّان من حقله البصري، ودلّ عليه بإشارات وبصمات وحركات. ما زال جان ــــ مارك يأخذ ريشته ويخربش، يرسم ويرسم ويرسم. يتصفّى المشهد، يمضي إلى الاختزال والتكثيف. خطوط وأشكال قليلة، وحكايات يوميّة مكرّرة حتى استنفاد العالم. من دون عنوان (مواد مختلطة على قماش ـ 55 × 40 سنتم، 2008)جان ـــ مارك نحّاس إنسان يخاف من العالم الخارجي. بحرب أو من دونها، يبدو مسكوناً بحالة ذعر. بعلاقة تصادميّة مع الخارج. والوسيلة الوحيدة للتطهّر من الخوف والنقمة والقلق واحتقان المشاعر، من هذه المشكلة الكيانيّة المزمنة مع العالم، هي في أن يرسمه. يحوّله نثار حيوات ومشاهد، شظايا وجود، مقتصداً في العناصر، منطوياً في النهاية على نفسه وعلى حكاياته. من هنا أنه غير مفهوم غالباً، ولعلّه أقل مجايليه قدرة على تحقيق الإجماع والرواج. شيء ما في رسمه، يذكّر بسمير خدّاج. ربّما كانت الانطوائيّة تحديداً، أو ذلك الازدحام والتشظّي على سطح اللوحة. التصوير المفكك والمتناغم في آن واحد لمشاهد المدينة والحياة. هذا العنف المكبوت، محرّك اللوحات المتوالدة بعضها من البعض الآخر. كنا نفكّر في المعلّم اللبناني حين دخل الرجل الصغير قادماً من باريس، إلى المقرّ الجديد لـ«غاليري كتّانة» (جفينور، الحمرا)، للقاء زميله الشاب ومشاهدة معرضه: «يسلموا ايديك» قال خدّاج بخجل قبل أن يختفي. كأنّه «ظهور» مجازي، يسبغ نوعاً من «البركة» على المعرض. يروي جان ــــ مارك نحّاس أنّه لم يكن يحبّ المدرسة، ولم يكن يملك صبراً أو قدرة على التركيز. ما دفع أهله إلى «اعتقاله» في البيت، محروماً من متع الحياة في الخارج، كي يجتهد ويدرس. كان الصبيّ يأخذ دفتره و... يرسم. «مربّعات حياة» كما يسمّيها، كان يضع فيها كل ما يحلم به ويشتهيه. المربعات والمستطيلات نفسها تتجانب اليوم، في اللوحة الواحدة، من جداريّات الحرب، إلى اللوحات الأخيرة. موضوع اللوحة حياته، أو بالأحرى موضوعها الرسم. الوضعيّة، الموقف، التعبير، الحركة، الخلفيّة، تقطيع الفضاء. كيف يمكن الدوائر أن تتعايش في المستطيل، كما في لوحة النساء المتشحات بالسواد مع لطشات زرقاء صغيرة، وهي من أجمل لوحات المعرض. الموضوع هو حركة الرجل بالأصفر الذي ينحني إلى اليمين حتى يكاد يطلع من الكادر (بطاقة الدعوة). في مشاهد الشخصيات الواقفة، الجالسة، المجتمعة، المتوحّدة، السؤال كيف تقول أقصى ما تريد بأقل ضربات ريشة ممكنة. يرفض نحّاس البهرجة والسينوغرافيا والتكلّف، واللوحة المشغولة التي تختبئ خلف ادعاءاتها. يجنح إلى العري واللطشات اللونيّة العابرة. كأنها مسودّات ومحاولات متمسّكة بفظاظتها الأولى. مربعات وشظايا، عالم متصدّع يعيد تركيبه. مشاهد (محرّفة) من الحياة اليوميّة غير القابلة للاحتمال. إطارات متتابعة كما في storyboard سينمائي. بعيداً عن سائر الأعمال، قرب الباب، تطالعك لوحتان لا تنتميان إلى المجموعة. مع أن البنت الصغيرة التي تمسك بضفيرتيها أفقيّاً... طالعة من مربّع صغير في إحدى جداريّات الحرب السابقة، حيث كانت تحيط بها أشلاء وطائرات ودبابات وأجساد عارية ووجوه، وذئاب وغربان. الذئب المتوحّد هو رفيق جان ــــ مارك وبطل كوابيسه وهواجسه المحمومة. والبنت ــ ليلى؟ ــ صنوه على الأرجح، في خوفها وضياعها وهشاشتها. استقلّت في لوحتين نادرتين (أكريليك على قماش ١٠٠ x ١٢٥ سنتم). كبرت وهدأت. بالبلوزة الكحليّة والتنورة الصفراء على خلفيّة رماديّة. هناك خط يفصل بين الأرضيّة والخلفيّة. في وجه البنت حكاية غريبة. جان ـــ مارك نحّاس يريد أن يقول لنا شيئاً...