تطرّز منى حاطوم الكوفيّة الفلسطينيّة المشهورة بالشَّعر. إنّه عمل فنيّ من النظرة الأولى، يتصدّر معرضها «كوفيّة» الذي تستضيفه «دارة الفنون» في عمان... وفنٌّ يثير التساؤل في النظرة الثانية الأعمق. وهنا يكمن عمق فنّ حاطوم: استخدام الأدوات العادية المحيطة بنا بشكل مفزع ومقلق، ما يجعل من السرير مكاناً للتعذيب الجسدي والنفسي، ومن الأحذية أثقالاً، ومن الخزف قنابلَ يدوية، ومن الصفصاف سجناً. وعندما نتوقف أمام هذه العناصر، سندرك بأنّ ما نراه ليس إلا وطناً مثقوباً، وطناً مسجّى على سرير تفرّ منه أطراف عقد الحديد الحادة: مريض ومنهك ولا شكل له إلا باحتلاله، أو بأصحابه اللاجئين، أو بهويته المفقودة.
تستعيد هذه الفنانة الفلسطينية (1952) عملها «كوفيّة» الذي أنجزته في التسعينيّات لتُعَنون معرضها الحالي. إذاً الحديث هنا عن فلسطين... لكنّ حاطوم لا تحبّذ المقارنات والتشبيهات الجاهزة، هكذا، نأت بفنّها عن هذا الإسقاط المباشر، فأصبحت الكوفية رمزاً مثلها مثل القبّعة. لكنّ الفرق هنا أنّها منسوجة من شعر النساء. وقد جاءت الفكرة من الغضب أولاً كما تقول حاطوم. إذ تصوّرت نساءً يقتلعن شعرهنّ بغضب. وعند المشاهدة الأولى، لا يمكن الانتباه بسهولة إلى أن الشَّعرَ أيضاً هو جزءٌ من الكوفية نفسها. وبذلك تُحقِّق حاطوم هدفاً آخر: فكرة حجاب المرأة. إنّها طبقات تنكشف ببطء، فيتشكّل العمل مرات عديدة قبل أن يصل إلى صيغته الأخيرة. فكرة المباغتة تخيّم بوفرة على المعرض. استعمال المواد المتروكة حولنا بشكل مباغت يظهر في «مدن ثلاثية الأبعاد»، ثلاث خرائط لمدن مضروبة: بيروت، كابُول وبغداد، وفي كل خريطة ثمة مناطق أفرغ منها ورق الطباعة على شكل دوائر داخل بعضها، دوائر بارزة، وأخرى منخفضة عن جسم الخريطة. تفنيد آثار الحرب يظهر أيضاً في «حلقة مفرغة»: دمى جنود يسيرون في حلقة، يشهر كل منهم بندقيته على ظهر الآخر، فالعدو هو الإنسان نفسه، وهو الآخر، والحرب مستمرة في دائرة توفّر أعداء وجنوداً طوال الوقت. أما التواصل فمعدوم، وخصوصاً في «محفور في الصخر» حيث تظهر كأسان من رخام مثبَّتتان على رفّ خشبي يربط بينهما خيط من القنّب، كتب على الكأس الأولى الشرق، وعلى الأخرى الغرب. المتراس هو الآخر حاضر هنا، لكنّ الفرق أنّ المتراس في «حديقة معلقة» يخلق مشاعر متناقضة. أكياس الرمل ذاتها تتخذ شكلاً مستطيلاً وعالياً، بينما ينمو العشب من بينها كأنّه نصب لقتلى الحروب، أو موت جندي وهو يدرك، ضاحكاً، أنّ الحياة تستمر رغم رحيله. وفيها أيضاً مفارقة أخرى، إذ توقّف الزمن بالنسبة إلى المتراس، بينما تستمر الأعشاب الخضراء بالنمو طوال فترة المعرض كمشهد من رواية ملحميّة. تلك المشاهد تأخذ شكلاً آخر في «ثبات 2»، مجرّد كرسي حديدي صدئ نسجت عليه شبكة عنكبوت حمراء من الخرز الزجاجي. موت أم رحيل آنيّ؟ أم غياب الروح؟ تتساقط الأسئلة كحيرة ضرورية وجزءاً من العمل نفسه. وعند الوصول إلى آخر تجهيز في المعرض «مشهد داخلي»، يزداد الفضول أمام هذا التشكيل المتناقض: سرير فارغ تحولت عقد الحديد فيه إلى نهايات حادة لا تغري بالنوم، ووسادة في طرفه طرز عليها، بالشعر، خريطة فلسطين. منضدة صدئة، علّاقة ملابس على شكل خريطة فلسطين أيضاً، والخريطة المطبوعة مفرّغة على هيئة كيس خضار. هنا الهوية تأخذ شكل المؤجَّل والمتروك، الهوية التي تستعمل حتى تُبلى. الهوية سؤال معلّق في الحياة الشخصيّة للفنّانة الفلسطينيّة التي ولدت في بيروت، وانتقلت إلى لندن بعد اندلاع الحرب الأهلية، فكانت طريقها إلى العالميّة... أعمال حاطوم معروفة على نطاق واسع اليوم في أوروبا وأميركا وأوستراليا وكندا، وهي من الأسماء المكرّسة في عالم الفن المعاصر. في عام 2004 حازت جائزة Sonning التي تمنحها جامعة كوبنهاغن كل عامين، وكان سبقها إليها فاتسلاف هافل، غونتر غراس، سيمون دو بوفوار... «أنسّق حياتي بشكل يسمح لي بألّا أكون في مكان واحد مدّة طويلة» تقول. فهي «لا تطلق جذوراً في أي مكان»، وهذا ما دفع بالنقّاد إلى تشبيهها بكافكا الملنخولي، وخصوصاً أنّها قدّمت في عمل La grande broyeuse رؤيتها لمشهد من روايته «في مستوطنة العقاب». إذ عملت على صنع مفرَمة لحم ضخمة لتكوّن تصورها عن الآلة الساديّة التي استعملها الجنود لتعذيب شخصية الرواية. وهي نفسها التي تقتل الضابط في نهاية الرواية. شخصية الرواية نفسها بلا هوية، ولا إشارة أيضاً إلى مكان وقوع الأحداث. لا وجود للهوية كصيغة مباشرة ومصطلح متداول، لكن حضورها طاغٍ بالتأكيد في فنّ حاطوم: متوتّرة ومهزوزة وتتّخذ شكل اليومي، كأن كافكا تحوّل إلى فنان تجهيز.
|